لماذا لا نستثمر ثقافتنا اقتصاديا؟!

سيف المعمري

تُفاخر الدول بثرواتها، وتقوى بتنوع مواردها دخلها القومي، ويعد الإنسان هو أغلى الثروات في أي مجتمع؛ فهو المحرك لعجلة التنمية، وهو الطاقة المتجددة التي تدفع بالدول إلى مدارج الازدهار والتنمية، وإن كانت الثروات الطبيعية والمعدنية هي من صنع الخالق، وهي متفاوتة في الكم والكيف بين دولة وأخرى، إلا أن ازدهار المجتمعات وعلو مجدها وريادتها لا يُقاس بحجم مواردها الطبيعية والمعدنية، بل بالدور المنشود للإنسان وقدرته على استثمار كل ذرة من تراب وطنه وأمته؛ فالتراث الثقافي والأدبي لأي مجتمع هو نتاج حراك إنساني، وتأثر وتأثير بين الإنسان وبيئته، وبينه وبين الآخرين ممن حوله من جهة أخرى.

وهناك صورة تتجسد فيها القيمة الحقيقية للإنسان في هذا العالم، فكم من الدول التي يشار إليها بالبنان بتعدد وتنوع ثرواتها الطبيعية والمعدنية واتساع مساحتها وتنوع مناخاتها ومنتجاتها، لكنها لا تزال تعاني من التخلف والجهل والفقر، وتكابد الأمرين بحثا عن الأمن والاطمئنان والاستقرار والازدهار كمثل بعض الدول الإفريقية، فيما تأتي الصورة الأخرى على النقيض من حيث دول بلا موارد طبيعية ولا معدنية، وهي مواطن مألوفة للكوارث الطبيعية الزلازل والبراكين والأعاصير، لكن إنسانها تجاوز تلك التحديات واعتلى قمم المجد والعُلى كاليابان مثلا.

إن أهمية التراث الإنساني تكمن في تعزيز الموارد الاقتصادية بكل تفاعلات الإنسان مع ذاته ومع بيئته، التي أصبحت محط أنظار وشغف المهتمين في علوم الآثار ودراسة العلاقات الإنسانية، فلوحة "الموناليزا" مثلا من أكثر المقتنيات الفنية التي يحرص على الاقتراب منها كل من يدلف إلى زيارة متحف اللوفر في باريس الفرنسية، وقس على ذلك العديد من النتاجات الفنية في المتاحف الدولية.

وتزخر السلطنة بالعديد من المفردات التراثية المادية وغير المادية، وإن ما يعزز المكانة الحضارية لعُمان، إدارج عدد من المفردات التراثية العُمانية على قائمة اليونسكو للتراث العالمي المادي والمتمثلة في بعض القلاع والمواقع الأثرية، والأفلاج، والتراث غير المادي والمتمثلة في بعض الفنون التقليدية، والتي تحتم علينا جميعًا أن نستثمر العمق الحضاري العُماني وتأثيره في الحضارات الإنسانية العالمية منذ القدم وحتى الآن.

ولقد واصلت السلطنة تعريف حضارات العالم بعمق تراثها وثقافتها منذ وقت مبكر من عمر النهضة المباركة ولا تزال، ويتأكد ذلك بتخصيص كراسي السلطان قابوس العلمية في عدد من أرقى الجامعات العالمية، للتعريف بالثقافة العُمانية ونشرها، وتوثيق الروابط وأوجه التعاون مع المؤسسات الثقافية والعلمية في دول العالم، وجائزة السلطان قابوس لحماية البيئة كنموذج عالمي لمواقف السلطنة المشهودة بها في خدمة قضايا البيئة، وجائزة السلطان قابوس للثقافة والفنون والآداب، لتكريم المثقفين والفنانين والأدباء على إسهاماتهم الحضارية، وتأكيد المساهمة العُمانية في رفد الحضارة الإنسانية بالمنجزات المادية والفكرية والمعرفية.

إن الحديث عن استثمارنا للتراث المادي والمتمثل في القلاع والحصون والأبراج، والمواقع والأسواق والبيوت الأثرية، والأفلاج والعيون، والتحف والمقتنيات واللقا، والخناجر والسيوف والدروع، والفضيات بأنواعها، تعد ذات أهمية بالغة لتنشيط الحركة السياحية للسلطنة كمورد متجدد، يسهم في تنشيط القطاعات الإنتاجية والخدمية الأخرى في الاقتصادي العُماني، إضافة إلى فتح مجالات أرحب لقطاعات وظيفية جديدة، وإن كانت السلطنة بدأت في مجال استثمار جوانب التراث المادي سالفة الذكر في التعريف بالسلطنة سياحيا في المعارض والمنتديات الإقليمية والدولية وهي تشهد نموًّا ملحوظا عاما بعد عام، إلا أن ما يجدر التركيز عليه في هذا المقال هو ضرورة التفات الجهات المعنية في السلطنة إلى الاستثمار الاقتصادي لمجالات التراث غير المادي والمتمثلة في القطاعات الثقافية بما تحتويه من مجالات أدبية، شعرًا، أو نثرًا، وفنون شعبية وموسيقى تقليدية، والعادات والتقاليد، والمهرجانات والمنتديات الثقافية.

فالتسويق للثقافة العُمانية بجميع تجلياتها واستثمارها اقتصاديًا أصبح ضرورة عصرية فرضتها تطور شبكات الاتصال والتواصل بين جميع الشعوب والمجتمعات البشرية، ولقد أثبت المثقف العُماني علو كعبه في منصات التتويج بالمراكز المتقدمة في سائر المشاركات في المجالات الثقافية المتنوعة، شعرًا، أو نثرًا، أو خطابة، أو مساجلات، أو أنشاد، أو غناء، ونحو ذلك.

إن أدوات التسويق للمجالات الثقافة والأدبية أصبحت متاحة للجميع، إلا أن مسؤولية الجهات الحكومية ومؤسسات القطاع الخاص تتمثل في احتضان الشباب العُماني المبدع، ودعم مواهبهم إعلاميًا، وإشراكهم في الفعاليات المحلية والخارجية، على أن المسؤولية الجسيمة لمؤسسات القطاع الخاص تتمثل في استثمار مواهب الشباب الثقافية كمورد اقتصادي من خلال تنظيم المسابقات الشعرية والنثرية واستضافة القامات الأدبية والثقافية العالمية والعربية، وتنظيم مهرجانات للفنون التقليدية، وتأسيس شركات إنتاج تُعنى بتوثيق وإبراز تلك الفنون إعلاميا، وتأسيس دور نشر عُمانية لطباعة وتسويق النتاجات الثقافية والأدبية، ولن يتأتى ذلك إلا إذا تكاتفت الجهود بين المؤسسات العامة والخاصة، من أجل الاستثمار الأمثل لثقافتنا اقتصاديًا.

 فبوركت الأيادي المخلصة التي تبني عُمان بصمت...

Saif5900@gmail.com