مِنْ مَقَامَاتِ طَرِيْدِ الزَّمَانِ الطَّبَرَانيّ

العَمُّ حَمْزَة يَتَبَرَّعُ للمُحَاصَرِينَ فِي غَزَّة (2)

أ.د/ يوسف حطيني – أديب فلسطيني - جامعة الإمارات

 

(إلى الدكتور أحمد عطيّة السّعودي امتناناً لأحماضه  الأدبيّة)
حّدَّثَنَا طَرِيدُ الزَّمَانِ الطَّبَرَاني قَال: كّنْتُ فِي أَحَدِ شَوَارِعِ المُخَيَّم، قُرْبَ سُوقِ الخُضَار، عِنْدَمَا انتَبَهْتُ إِلَى أنّ الظَّلامَ قَدْ خَيَّم، وطَارَتْ بَرَكةُ النَّهَار، وإِذَا نَفَرٌ مِنْ أَصْحَابي الَّذينَ بَاوَكْتُهُم فِي المُؤْتَمَرَاتِ زَمَناً طَوِيْلاً، يَحُثُّونَ نَحْوِي المَسِير، وكَأَنَّهُم مُقْبِلُونَ عَلَى شَيْءٍ خَطِير، فَحَكَّ في خَاطِري فَأْلٌ سَيِّئ، فَقُلْتُ بِصَوْتٍ وَاجِل: أَجَارَنَا اللهُ مِنْ خَبَرٍ عَاجِل، قَالُوا: الإخْوَةُ يجتَمِعُونَ عَلَى طَاوِلَةِ الحِوَار، وَأنْتَ مَشْغُولٌ بالبَنْدُورَةِ والخِيَار؟ قُلْتُ: أَوْجِزُوا، فَإِنّي مُكَلَّفٌ بمُهِمَّةٍ رَسْمِيَّة، مِنْ قِبَلِ وَزَارَةِ الدَّاخِلِيَّة، قَالُوا: سَوَّدَ اللهُ وجْهَكَ. نَدْعُوكَ لغَايةٍ سَنِيّة، فَتُحَدِثُنَا عَنْ شُؤونِكَ الأُسْريّة. ثمَّ أَضَافُوا سَاخِريْن: أَتَذْهَبُ مَعَنَا في الحَال؟ أَمْ تَعُودُ إِلَى أُمِّ العِيَال؟ فَاسْتَفَزَّني هَذَا التَّحَدِّي السَّافِر، وَقُلْتُ: أَذْهَبُ مَعَكُم دُوْنَ اِسْتِخذَاء، وَأَضْمَرْتُ الاِسْتِعْدَادَ لِلَيْلَةٍ سَوْدَاء.
ثمَّ اِنْطَلقْنا حَتَّى وَصَلْنا إلَى المَكَانِ، فَوَجَدْنَا فِيْهِ خَلْقاً كَثِيراً، وإِذْ نَظَرْتُ فِيهِ نِظْرَةَ المُرْتَاب، طَالَعَني مِنَ الأَوْضَاح عَجَبٌ عُجَاب، مِنَ الشِّيبِ والشَّبَاب، بالإِضَافَةِ إلى سَافِرَاتٍ وَمُحَجَّبَات، نَامِصَاتٍ وغَيْرِ نَامِصَات، يَتَدَرَّجْنَ مِنَ المَوْجُوْنَاتِ المُستَتِراتِ بِالبَرَاقِع، إلى المُرْتَئِدَات اللائِي يَتَبَرَّعْنَ بِأُنُوثَتِهِنَّ لِعُيُونِ الجَائِع، وَثمَّةَ صُرَاخٌ وَصَفِير، وحَمْحَمَةٌ وزَئِير؛ لِذَا فَقَدْ تجَرْثَمْتُ فِي مَكَاني، ولم أُغَادِرْه، وَنذَرْتُ للرَّحمنِ الصِّيَام، لأنّ الاِسْتِمَاعَ فِي مِثْلِ هَذِه الأَحْوَالِ أقْرَبُ إلى التَّقْوَى مِنَ الكَلام.
وَقَفَ الخَطِيبُ بنُ لِسَان، مُفْتَتِحاً جَلْسَةَ الحِوَار، بِبَيْتٍ مِنْ أَجْمَلِ الأَشْعَار، فَقَال:
وقَدْ يَجْمَعُ اللهُ الشَّتِيتَيْنِ بَعْدَمَا****يَظُنَّانِ كُلَّ الظَنِّ ألا تَلاقِيَا
قَالَ رَجُلٌ نَظِيفُ الوَجْهِ واللِّسَان، وقَدْ زعبَلَ، وامتَدَّ كِرْشُهُ في غَيْرِ اِتِّزَان: عَلَى الجَمِيعِ أنْ يَعُودُوا إلى حِدُودِ مَا قَبْلَ حَرْبِ حَزِيْرَان.
بَيْنِي وبَيْنَكُم ظَنَنْتُ الرَّجُلَ يَتَحَدَّثُ عَنْ حَرْبِ سَبْعَةٍ وَسِتِّين، غَيْرَ أنَّ ذَلِكَ لم يَكُن صَحِيْحاً، إِذْ أشَارَ إلى عَامِ 2007، يَوْمَ آلَتْ الأُمُورُ في غَزَّةَ إلى حَمَاس، بَعْدَ أنْ تَفرّثَتْ شَرِطَةُ عَبّاس.
قَالَ آخَرُ بِاسْتِخْفَاف:
-    وَمَنْ هُوَ عَبَّاس؟
فَعَلا الهِيَاجُ والوَعْوَاع، وكَثُر الوِيعُ والوَاع، لَوْلا أنِ اقتَحَمَ رَجَلٌ مُرَقَّعُ الثِّيَابِ، أَوْذَمَ عَلَى السِّتّين، جُمُوعَ المحتَشِدِين، وَهُوَ يحْمِلُ صِينِيَّةَ الشَّاي، فَاكْتَسَت وُجُوهُ الجَمِيعِ بالحُبُور، وَزَالَ التّوَتُرُ والنُّفُور، وَأَقْبَلُوا عَلَى الشَّايِ يَكْرَعُون، فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: لَعَلَّ هَذَا النَّوعَ مِنَ الأَشْرِبَات، يَقُومُ بجَمْعِ الشَّتَات، ويُمَهِّدُ الأَرْضِيَّة، لِتَحْقِيقِ الوحْدَةِ الوَّطَنِيّة، وَتَذَكَّرْتُ قَوْلَ حَسَّان:
إِذَا مَا الأَشْرِبَاتُ ذُكِرْنَ يَوْماً****فَهُنَّ لِطَيِّبِ الشَّايِ الفِدَاءُ
قَالَ الرَّجُلُ الَّذِي أَكْرمَ شَارِبَيْه بِصَوتٍ مُرْتَفِع: شُكْراً لَكَ يا عَمّ حَمْزَة..
ثمَّ أَضَافَ سَاخِراً: لَعَلَّكَ تُريد مُشارَكَتَنَا الحَدِيث.
-    لا.
-    وَمَاذَا فَعَلْتَ باللَّيْرَاتِ الخَمْسِين، الّتي أعْطَاكَ إِيَّاها أَبُو الأَمِين؟
-    تبرّعْتُ بِهَا لأَهْلِ غَزّة.
-    بهذِهِ السُّرْعَة؟
-    تَبَرَّعْتُ بها حَالمَا رَأَيْتُ لجْنَةَ التَّبَرًعَات.
-    وَهَلْ لَدَيْكَ كَثِيرٌ مِنَ الخَمْسِينَات؟ أنَا أَعْرِفُ أنَّكَ مُثْقَلٌ بالدُّيُونِ الوَالِثَة، وَهَذَا التَّهَوُّرُ قَدْ يَقُودُكَ إلى كَارِثَة.
-    إنَّهُم يُدَافِعُونَ عَنِّي وَعَنْك.
وَقَفَ الخَطِيبُ بنُ لِسَان قَائِلاً:
هَنِيئاً مَرِيئاً غَيْرَ دَاءٍ مُخَامِرٍ****لِغَزّةَ مِن أرْوَاحِنا مَا اسْتَحَلَّتِ
قَالَ الرَّجُلُ النَّظِيْف:
-    ألا تَخْشَى ألا يَصِلَ تَبَرُّعُكَ إِلَى أَهْل غَزَّة، أَنْتَ تَعْرِفْ يَا عَمّ حَمْزَة، أَنَّ هَذِهِ التَّبَرُعَاتِ قَدْ يُصَادِرُهَا الأعْدَاء، وأَنَّ جَهْدَكَ قَدْ يَضِيعُ في الهَوَاء.. ثمَّ مَاذَا سَيَفْعَلُ الغَزِّيُّونَ يَا مِسْكِين، بِلَيْرَاتِكَ الخَمْسِين، وهَل سَتَكْفِي للغِذَاء والدَّوَاءِ والبَنْزِين؟
-    أَقُومُ بِوَاجِبي، وَلا يهمُّنِي فِعْلُ الآخَرِين.
سَأَلَتْ امرأةٌ ذَاتُ مِنْديلٍ مُزَرْكَشٍ بِصَوْتٍ مَمْطُوط:
وَلمَاذَا لا تُقَدّم تَبَرُعَاتِكَ إِلَى المَسْؤُولِين، يَحْمِلُونَهَا مَعَهُم إِلَى المُحْتَاجِين.
انْتَفَضَ رَجُلٌ مِن الجَالِسِين قَائِلاً:
-    تُصَادِرُهَا شَرِطَةُ عَبّاس؟
قَالَ آَخَر:
-    رَحِمَ اللهُ شَرِطَةَ عَبَّاس، فَقَدْ آَلَتْ الأُمُورُ إِلَى حَمَاس.
قَالَ الرَّجُلُ بِاسْتِخْفَاف، وَمَنْ هُوَ عَبَّاس؟ وشَرِطَةُ عَبَّاس؟
-    تَدَخَّلَ الخَطِيبُ بنُ لِسَان قَائِلاً:
-    ألا تَعْرِفُ عَبَّاس بنَ فِرنَاس، ذَلِكَ القَائِدَ الدِّرْبَاس، الَّذِي أَرَادَ أنْ يَطِيرَ مِنْ رَام الله إِلَى القُدْسِ بِنِصْفِ جَنَاح.. فِعْلةَ مَنْ يَسْعَى إِلَى الهَيْجَا بِغَيْرِ سِلاح.
قَالَ العَمّ حَمْزَة قَبْلَ أنْ يَخْرُجَ: لا تَغْبَجُوا الشَّايَ عَلَى مَهَل، فَالعَشاء الّذي طَلَبْتُمُوهُ سَيَصِلُ في العَجَل.
قَالَ الرَّجُل الَّذي أَكْرَمَ شَارِبَيه: العَمّ حَمْزة نَمُوذَجٌ حَيٌّ للبْرُولِيتَاريَا الرَّثَة.
وَضَعَتْ بَعضُ السَّيِّدَاتُ فَوقَ أُنُوفِهِنَّ الكَمَّامَات، حَتّى لا تُزْكِمُهُنَّ رَائِحَةُ الكَلِمَات، غَيْرَ أنَّه أضاف:
لَعَلَّكُم لا تَعْرِفُونَ أنَّ العَمَّ حَمْزَة مَا زَالَ يحتَفِظُ بمَفَاتِيحِ بَيْتِه في فِلَسْطِين، وَأَنَّ "كُوشَان" بيتِهِ وحاكُورَتِه مِا زِالِ مِعِهُ في حِرْزٍ مَكِين.
قَالَتْ إِحْدَى الحَاضِرَات: يَأْتِي زَمَانٌ عَلَى أُمَّتِي يُصْبِحُ فِيْهِ القَابِضُ عَلَى المِفْتَاحِ والكُوشَان، كالقَابِضِ عَلَى جَمْرَةٍ مِنَ النِّيرَان.
قَالَ الرَّجُلُ النَّظِيف:
إذا كَانَ مِنْ أَهَالي الـ48 فَأَنْصَحُهُ أنْ يَخْلُدَ إلى الجَمَامَة، وَأنْ يُلْقِي المِفْتَاحَ والكُوشَان في القُمَامَة.
رَدَّ الرَّجل الّذي أَكْرَمَ شَاربَيْهِ ولِحْيَتِهِ: لَنْ يُلْقِيَ المِفْتَاح، لأنَّ حُدُودَ فِلَسْطِين تمتَدُّ مِنَ النَّهْرِ إِلَى البَحْر.
قلتُ في نَفْسِي: حُدُودُ فِلَسْطِين تمتَدُّ مِنَ الجُرْحِ إِلَى السِّكِّين، غَيْرَ أَنّي خِفْتُ أنْ أَتَدَخَّلَ بالحَدِيْث، فَأَزِيدَ بِلَّةً فَوْقَ الطِّيْن، لأنَّ الرَّجُلَ النَّظِيف خَرَجَ عَنْ طَوْرِه، وكَادَ يُحَاصِب المُتَحَاوِرِين.
هَمَسَ صَدِيقٌ في أُذُني قَائِلاً:
أُفَكِّرُ في أَنْ أحْتَاصَ للأَمْرِ، حَتَّى لا تَضِيعَ القَضِيَّة.
قُلْتُ: كَيْف؟
قَالَ: أَنْشَقُّ مَعَ مجْمُوعَةٍ مِنَ الرّفَاقِ، ثمَّ أُطَالِبُ بالوحْدَةِ الوَطَنِيّة..
بَعْدَ أنْ أُفْرِغَتْ كُؤُوسُ الشَّاي ارتَفَعَت الأَصْواتُ مِنْ جَدِيد، بالاتهَامِ والقَذْفِ والتَّنْدِيد، وَخِيَانَةِ المِيثَاقِ وَتَضْييعِ الهُوِيَّة، وَلم نَتَّفِقْ إلا عَلَى مُقَاطَعَةِ البَضَائِعِ الأمْرِيكِيّة، في اللَّحْظَةِ الّتي وَصَلَتْ فِيْهَا وَجَبَاتٌ مِنْ مَطَاعِمِ مَاكدُونُالْدز، فَقَرَّرْنَا أنْ نَأْكُلَ الطَّعَامَ اللَّذِيْذ، قَبْلَ أنْ يَدْخُلَ قَرَارُ المُقَاطَعَةِ حَيِّزَ التَّنْفِيذ.
ثُمَّ إنَّ الخَطِيبَ بنَ لِسَانٍ بَادَرَ بَعْدَ انْتِهَاءِ الطَّعَامِ إِلَى القَوْل:
ولا تَجْعَلِ الشُّورَى عَلَيْكَ غَضَاضةً****فَإِنّ الخَوَافي قُـوَةٌ للقَـوَادمِ
وَقَدْ فَاجَأَني أنَّ قَوْلَه لاقَى تَصْفِيقاً وَاسْتِحْسَاناً مِنْ جَمِيعِ الإِخْوَةِ والرِّفَاق، فَحَمِدْتُ اللهَ عَلَى نِعْمَةِ الاتِّفَاق، إِلا أَنَّنِي اكتَشَفْتُ بِسُرْعَةِ البَرْقِ وَهْمَ الصّفاء، فَجَئِزْتُ بِكَأْسِ المَاء، إِذْ سَرْعَانَ مَا عَادَ الخِلافُ والتَّجَافي ، عِنْدَ تَحْدِيدِ القَوَادِمِ والخَوَافي، لِكَيْ يَسْتَطِيعَ عَبّاسُنا أنْ يَطِير، فِي دَرْبِ الاسْتِقْلالِ والتَّحْرِير. فَالجَمِيعُ هُنَا مِنَ القَوَادِمِ القَاسِيَة، ولَيْسَ ثَمَّةَ أيَّةُ خَافِيَة، اللهمّ إلا العَمّ حَمْزَة، لِذَلِك سَارَ الحِوَارُ مِنْ جَدِيدٍ إلى الهَاوِيَة، ولم يُفْلِح الشَّايُ في تَصْفِيَةِ الأَجْوَاءِ مَرَّةً ثَانِيَة.
واشْتَدَّ الهِيَاجُ والصِّيَاح، حتَّى طَلَعَ الصَّبَاح، وسَكَتَ المُتَحَاوِرُونَ عَنِ الكَلامِ المُبَاح، مَا عَدَا العمَّ حِمْزة الّذِي قَالَ لَنا: "تُصْبِحُونَ عَلَى وَطَنٍ مِنْ سَحَابٍ وَمِنْ شَجَر"، ثمَّ وَدَّعَنا مُلَوِّحاً بمِفْتَاحِهِ وكُوْشَانِهِ وابتِسَامَتِهِ الرَّائِقَة، وَانْطَلَقَ خَارِجَ سِجْنِ المَكَانِ بخُطْوَتِهِ الوَاثِقَة.
ثمَّ إنَّ طَرِيدَ الزَّمَان الطَّبَرَاني قَامَ ليُوَدِّعَنَا تودِيعَ الأَحْبَاب، فَسَأَلْنَاهُ عَنْ تَتِمَّةِ الحِكَايَةِ، فَقَالَ: كَانَتْ زَوْجَتِي تَنْتَظِرُني بِالمِكْنَسَةِ وَرَاءَ البَاب، ثمَّ أضَافَ بِلَهْجَةٍ حَرّى: تَعَالُوا في قَابِلٍ حَتّى أُسْمِعَكُم مَقَامَةً أُخْرَى. قُلْنَا: ومَا عُنْوَانُها، قَالَ: "اقْتِرَاحَاتُ زِرْيَاب.. لتَجْفِيفِ مَنَابِعِ الإِرْهَاب".

تعليق عبر الفيس بوك