قصة قصيرة:

مطلوبٌ في الطابق الأرضي

د. حسام إلهامي – الجامعة الأهلية - البحرين


(1)
أسير في الممر الطويل. للمكان رهبة، وللمقابلة رهبة أكبر. مذ عملت بهذه الشركة لم أره قط، بل قلّما رآه أحدٌ من العاملين، علمنا أنه يتواصل فقط مع دائرةٍ ضيقةٍ جدًا من موظفيه المقربين، يبث لهم أوامره وتعليماته ونواهيه ليبلغوها لسائر العاملين بالشركة.
هذا الأمر صنع له هيبةً ووقارًا وجلالاً لم يحظ بها مديرٌ في أي شركة أخرى. صار مرآه معجزةً، ومقابلته أسطورة تروى. آوامره "فرامانات" لا ترد، وعقوباته مؤلمة قاسية.
يحكون في جلسات النميمة أنّه أنشأ تلك الشركة من العدم تقريبًا، اختار لها منطقة كانت حينئذٍ نائية، صحراء قاحلة لا أثر فيها لحياة أو لبشرٍ، فبعث في المنطقة روحًا جديدة، فصارت تعج بالبشر، ورغم الخفاء وعدم الاختلاط، استطاع أن يضع للشركة نظامًا شديد الإحكام؛ آليات دقيقة لحركة العمل وتدفقه، نظامٌ أذهل الجميع، حتى أضحت أنجح شركة في مجالها.
أنهيت الردهة. لم يعد يفصلني عنه إلا جدار حاجز تقبع أمامه جحافل من السكرتارية، تتوزع على عدة مكاتب وحجرات. بسهولة يدرك الرائي من توزيعهم أنهم ليسوا سواء، طبقات بعضها فوق بعض في المرتبة والقرب منه. تقسيم المكان فرض عليّ ألا أعبر للمقربين قبل أن أمرّ على من هم بالصفوف الأولى. وقفت على مكتب أحدهم اتصبب حيرة، فأغلب من طلبهم لم ينالوا إلا إحدى اثنتين؛ مكافأة كبرى أو عقابًا قاسيًا.. فأي جزاء منهما سأنال؟!

(2)
أهبط من علياء مكتبه إلى مكتبي الرثّ بالطابق الأرضي. أترنح من هول الصدمة. ما قاله لي ذلك السكرتير أفقدني توازني، مئات الأسئلة تتصارع داخلي حول ما هو قادم. الخوف من المجهول أعاق المقارنة الساذجة التي كنت أعقدها بين جمال وتناسق ومثالية الأشياء في الطابق العلوي، والفوضي المقززة المتربعة في جنبات الأرشيف والأقسام الإدارية بالدور الأرضي. قلقي يكاد يقضي على آمالي في الصعود والعمل بالطابق العلوي. حيث الراحة والمال الوفير.
تكورت أسئلتي الحائرة في سؤال سديمي واحد؛ كيف لي بتنفيذ تلك المهمة الغائمة المضنية المحيرة؟!!
(3)
الأمر فوق الطاقة، فكرت في التراجع، أن أترك الشركة نهائيًا. استرجعت مصهور الكلمات التي صبَّها في أذني ذلك السكرتير بلهجة حاسمة: "الرفض ذاته ترفٌ لا تملكه، أمره تكليف لا يُرد، لا تتراجع عن أداء المهمة أو تتهاون فيها، ولا تفكر في ترك العمل، فلن تجد سبيلاً للالتحاق بعمل آخر لأنه يستطيع بنفوذه وعلاقاته واتصالاته أن يجعل الآخرين يرفضون إلحاقك بأعمالهم، ولتعلم أنك من اليوم ستكون مراقبًا في كل لحظة وفي كل خطوة تخطوها."!
اعتراني اليأس. صار الأمر قدرًا لا فكاك منه. قررت خوض المهمة دون تراجع.  
(4)
مهمتي بكاملها ستدور في الطابق الأرضي. كان علىّ أن أفتش وأنقب في كل وثيقة أو ورقة عما يرتكبونه من آثام ومخالفات وفساد بات يزكم الأنوف منذ سنين، دون أن يجرؤ أحدٌ على التصدي له.
ركام من الفساد متراكم منذ سنين؛ سرقة للمال العام، رشاوى مقابل كل عمل، ابتزاز، استغلال للنفوذ، احتيال، تزوير فَجٌّ. والأخطر أنَّ الفساد صار ثقافة سائدة، وعادة مقبولة مألوفة فلا تأنينب من ضمير، ولا اندهاش لمرآه.
لم يكن ذلك فقط ما صدمني، صدمتي الأكبر وقعت لي حين صعدت الطابق العلوي اطلع سكرتيره الخاص، والموكول بأمري على ما كشفت. فإذا به يخبرني أني قد فهمت الأمر خطأً، فمهمتي ليست كشف الفساد، الذي يعرفه القاصي والداني، مهمتي الحقيقية أن أضع حدًا له، أن أعيد الأمر إلى جادة الصواب، أن تسير الأمور على قسطاس مستقيم لا إعوجاج فيه.
(5)
 تبجحهم فاق خيالي! كنت أحسب أني حين أواجههم بفسادهم المشين بالأدلة سوف يخرون ندمًا واستعطافًا، كان الأمر مختلفًا تمامًا، فلم يكتفوا بالإنكار والتعنيف والصياح، بل صوبوا نحوي سبابهم وتقريعهم بألسنة غِلاظ لعقت من الفساد والحرام حتى صار جلدها سميكًا مقززًا.
صحيحٌ أن بعضهم أبدى ندمًا وصار يلتمس لنفسه الأعذار بكلمات من قبيل: "نحن بشر.. نحن ضعفاء والإنسان ضعيف.. رواتبنا لا تكفينا..."؛ حتى كدت أصدقهم، ولكني سرعان ما استرجعت قول شوبنهور الفيلسوف الألماني حين قال الشهوة أو الرغبة أو الإرادة، لا العقل هى ما يحرك الإنسان، والإرادة شهوانية بهيمية بطبعها. وحين نشتهي شيئًا نزينه لأنفسنا ونلتمس لأنفسنا العذر في طلبه، بل قد نعتبره أمرًا طيبًا، لا لشئ إلا لأننا نشتهيه! ورغم ذلك فالكثرة الكاثرة منهم أصرّت في عنادٍ على ما هى عليه.
(6)
لماذا أنا بالذات لهذا المهمة؟!
كنت أكثرهم عزلة عمّا يجري حولي في أرجاء الشركة وتحت قيعانها العميقة، كنت معروفًا بين الجميع بقلة الكلام والاختلاط والتيه في أحلام اليقظة، كنت غائصًا لأذني في تأملات فلسفية أعمق من أن يدركوها أو تطوف بخيالهم الضيق القاصر الدائر قسرًا في مدارات تدبير الأقوات.
منذ مراهقتي وأنا أعاني عذابات البحث عن الحقيقة. أسئلة حائرة لا إجابة لها جرتني جرًا للقراءة في الفلسفة والدين والأدب والتاريخ؛ علّي أظفر بإجابة شافية تخفض من حرارة السؤال.
كنت قد شددت الرحال بلا رجعة إلى التفكر العميق. شهوتي للقراءة سقطت بي في غياهب ذاتي التي انتزعتها من هدير الحياة الصاخب، فشيدت داخلي محرابًا، بداخله جسر تعبر عليه الحيرة بين ضفتي الواقع والمثال.
كل ذلك فصل عقلي المنهك بالبحث فصلاً تامًا عن كل ما يحيط بي، وربطني بالمقابل بعالم أثيري؛ فلماذا.. لماذا شدني وألقى بي مرة أخرى في هذا العالم الملىء بالمفاسد؟! لماذا؟!
(7)
بغضب مكتوم يزايله بعض الإشفاق نشطت في ملاحقتهم، جمعت ما تحصلت عليه من أدلة ومستندات، أخذت أدرس كل حالة على حدة، وأرفع بها تقريرًا للإدارة مشفوعًا بأدلة الإدانة.
بدأت الأخبار تطوف في أرجاء الشركة، قرارات متتابعة بتحويل المتهمين بالفساد للنيابة، ارتجفت القلوب. بدأ الكل يفكر ألف مرة قبل أن يقدم على فعلة يروي بها شبقه للمال الحرام.
قلَّت معدلات الخروج على القانون، على الأقل على مستوى الفساد الظاهر المتبجح.
أخذت الحوائط تزدان بتقارير الحسابات الختامية التي تعلن أنّ مبيعات الشركة وأرصدتها وأرباحها تضخمت على نحو لم تشهده من قبل منذ تأسيسها؛ بل بدأت تلك المعلقات تعلن عن فيوضات بمكافآت وعلاوات أثلجت الصدور، وبعثت الارتياح في النفوس.
غمرتني النشوة. شعرت بأني نجحت، وأني سبب أرسلته العناية الإلهية كي يتحقق كل ذلك. ولكن في غمرة الانتشاء حدث ما لم أكن أتوقع.
(8)
صعدت إلى مكتب رئيس مجلس إدارة الشركة أحمل في يدي تقريرًا شاملاً بما صنعت. أخبرت حجابه بما لدي، حولوني إلى أكبرهم منزلة وأكثرهم قربًا منه، عندئذ شعرت بأني جاوزت حدًا من القرب لم ينله إلا القليلون.
تفحص الرجل التقرير سريعًا، ثم تحرك من خلف مكتبه واقترب مني ووضع يده على كتفي في حنو لم يستطع أن يداري قوة وتفرطح يده، وسألني باستنكار ممزوج بأدب وإشفاق:
o    ألم نخبرك ألا تأت تطلب مقابلته قبل أن تنه مهمتك؟!
رددت بثقة وبراءة:
o    هاهي، صارت شبه منتهية، لقد قلَّت نسب الفساد والانحراف في الشركة على نحو غير مسبوق.
o    ما تذكره كان في مبدأ الأمر، أما الآن فقد بدأ أغلبهم يعود سيرتهم الأولى.
عاودني الشعور الحارق باليأس، شعرت بأني أحارب الهواء، أناضل وأشقى من أجل مستحيل لن يتحقق مطلقًا، إذ كيف لأناس أن يكفوا تمامًا عن الفساد؟!! أمرٌ لم تشهده الأرض قط! الفساد موجود ما وجد البشر. صلاح الناس صلاحًا مطلقًا مثالية ليس إلى بلوغها من سبيل.
انتشلني من خواطري اليائسة صوت الرجل، حدثني وكأنه يسمع صدى الكلمات التي تتردد داخلي:
o    لا تجعل الواقع يقهرك، قاوم وصمم على تغييره. وإياك، إياك أن تيأس أو تُهزم من داخلك أو تقهقر. ذاك أكثر ما يكرهه في موظفيه؛ اليأس والاستسلام.
(9)
أخذت أحاول ثانية. استجابة ثم ارتداد، ثم استجابة فارتداد. ما إن أعتقد أنّ الأمر قد استقام لي، حتى أجد من المؤشرات ما يدل على أنّ شيئًا لم يتغير، وأنّ الأمر يجري سيرته الأولى.
لعنتُ من داخلى الطبيعة البشرية التي رأيتها على حقيقتها سافرة للمرة الأولى في حياتي.
صعدت إلى الطابق العلوي عدة مرات، أطلب معونته حينًا، وأتوسل إنهاء ندبي من تلك المهمة حينًا آخر. وفي كل مرة يرفض طاقم سكرتاريته الإقرار بإنجاز المهمة أو إنهائها.
أعياني الأمر. وجدتني أدور في دائرة مفرغة تبدو بلا نهاية. شعرت بيأس مطبق أفقدني الرغبة في كل شئ والأمل في أي شئ واشتهاء أي شئ.
وفجأة سقطت.
(10)
أرقد في أشد حالاتي ضعفًا. آلام لا تطاق لم تنجح معها علاجات الأطباء الذين حاروا في سبب تلك الآلام المبرحة التي تنبش أظافرها في جسدي الهزيل من وقت لآخر، تخلت عني قواي الجسدية، وبدأت أشعر تدريجيًا أن جوارحي لم تعد تأتمر بأمري.
موات سريري بطئ لم أملك معه إلا عقلي الذي انخرط في تأمل عميق لذاتي وللكون، رغم دوامات الألم الحارق كانت روحي تشرق بأنوار غريبة فياضة وضاءة، ضياءٌ سما بي إلى أفق علوي نوراني لم أشهد له مثيلاً. سحائب من النشوة تمرُّ على قيعان روح كانت مطمورة تحت ركام الماديات اللزجة. تمنيت ألا يزول هذا الإشراق الروحي، حتى ولوجاءني مصحوبًا بهذا الألم اللعين.
إلى أن جاء ذاك اليوم الغريب الذي زارني فيه.
(11)
اقتحم حجرتي بغير استئذان، هيئته غريبة تبعث على الرهبة. توقف في ثبات إلى جانب السرير الذي أرقد عليه. سدَّد لي نظرات عميقة متأملة، ثم قال بصوت متحشرج منحني جرعة إضافية من الانقباض:
o    "جئت إليك من الشركة. وافق على لقائك، وقد حدد لك موعدًا".
لم تسعفني قواي على أن أصدر أمرًا لعضو من جسدي بالتعبير عن فرحتي بهذا النبأ.
عاجلني بسؤال:
o    أليس هذا هو الدفتر الذي دونت فيه تفاصيل كل ما جرى خلال ما كُلفت بها بالطابق الأرضي؟
قبل أن أرد إلتقط الدفتر الذي كان يرقد إلى جانبي، وفي وهن وضعف شديدين سألته:
o    منذ أربعة أشهر لم أدخل الشركة، قل لي بالله عليك؛ هل انصلح حال موظفيها العاملين بذاك الطابق الأرضي؟ أم عادوا إلى ما كانوا عليه من فساد؟
نظر إليّ نظرة عميقة مشفقة، ولأول مرة منذ مقدمه تبسم، ثم قال متجاهلاً سؤالي: لم يعد هناك وقت. حان موعد لقائك به. ألم تكن تلح على هذا اللقاء، بل تشتاق إليه؟! ستذهب للقاء الآن، وحين تقابله سله عمَّا شئت، ستجد إجابة لكل الأسئلة، ستزول حيرتك، وينكشف لك كل شئ.. كل شئ.

تعليق عبر الفيس بوك