ترجمة كتب الأطفال.. إلى أين؟

 

عزيزة الطائي

تُعدّ التّرجمة اليوم منهلًا معرفيًا وفكريًا لتراسل الفنون الأدبية والإبداعية، كما إنّها إحدى الوسائل الحديثة إلى الثّقافة العامة، ومنفذًا للتّعرف على حضارات الشّعوب، وأداة للرّقي باللغة العربية بحيث تكتسب مرونة الاشتقاقات، والتّفاعل مع اللغات الأخرى؛ هذا عن علم التّرجمة بشكل عام.

أما فيما يتعلق بالتّرجمة التي تتوجه لعالم الطّفولة بالتّحديد، فإنّها تكتسب أهمية خاصة، وتحتاج إلى رعاية فائقة؛ كونها تتماس مع الحاجات التّربوية والتّعليمية، وتتعاضد مع ضرورة العناية الثّقافية والحضارية للتّعليم والعلوم والثّقافة بشكل عام. فكيف إنْ لامستْ هذه الكتب المنتقاة أدبيات الطّفولة بما تحمله من دلالات وآفاق، بوصف الكتاب الورقي أحد المكونات الأساسية التي تشكل الثّقافة الجادة مهما تطورت التّقانات الإلكترونية عند بناء الأجيال التي تؤسس المجتمعات الإنسانية.

تولي المدينة الحديثة بما تحمله من تقدم وعمران، وتطور علمي وتكنولوجي الكتب الموجهة إلى الأطفال أهمية بالغة، وهذه الأهمية يدخل فيها الكتاب المترجم بشتى أنواعه وتعدد مضامينه؛ وهذا يعني أنّ غاية المدينة المتحضرة الرّقي بأجيالها، وذلك بتوجيههم نحو الإطلاع على أنواع الآداب والفنون، وإلمامهم بثقافات وحضارات الشّعوب، وتعزيز التّفكير العلمي لديهم، وتكوين رؤية واضحة عن عالم اليوم بما يساعدهم على تجلي العقل النّقدي الذي يؤهلهم إلى تقييم ذواتهم، ويمكّنهم من تقدير الملاحظة وإدراك الحقائق، ويوجههم لممارسة التّحليل عند تلقي المعلومات فتنكشف من خلالها الأسرار التي يبحثون عنها، ويكتشفون عوالمهم، وتجيب عن تساؤلاتهم التي طالما توقفوا أمامها، وهكذا تحلق بأمنياتهم وأحلامهم، وتعزز معارفهم وأفكارهم التي ينشدونها عبر الواقع والخيال.

ترى الدراسات التّربوية المهتمة بالتّنشئة الاجتماعية أنّ الطّفل في مرحلة الطّفولة المبكرة سريع المحاكاة والتّقليد، وكثير الاستفسار والتّحليق، وهو لذلك يستطيع أنْ يتعلم بسهولة ويُسر أيّ لغة أجنبية إذا توافرت له البيئة الصّحية المناسبة، وأتيحت له فرصة الاختلاط بأهلها؛ فهو يستطيع اكتساب اللغة الأجنبية من دور الحضانة، ورياض الأطفال مع ما قد يترتب على ذلك من تحديات تطال لغته الأم، وهذا يتطلب منّا حسن تدبير الأمور ومعالجتها أثناء اكتسابه للغة الآخر، وتعاطيه معها قراءةً وكتابةً وتحدثًا وإنصاتًا، ومع ذلك ترغيب الطّفل بلغته الأم بالتّيسير والتّحبيب والتّعزيز.

والمطالع للكتب المترجمة لعالم الطّفولة العربية مهما تنوعت موضوعاتها يلحظ أنّها رسالة موجهة إلى وعي الطّفل ولا وعيه في آنٍ واحد، فهي تتوجه أولا إلى "أنا" الطّفل، وتسهل نموه من خلال تأهيله ودفعه باتجاه الكينونة الإنسانية؛ وذلك بإشباع دوافعه وحاجاته الانفعالية من حب الاستطلاع، وغرس القيم الأخلاقية والتّربوية، وتنمية روح الخيال والانتباه والتّعليل والتّحليل والتّركيب والاستنتاج، وإمداده بالمعلومات وشحذ عقله وفكره بتحفيز قدراته العليا، بالإضافة إلى الرؤى التّرفيهية والأهداف المُمتعة التي تجدد رغبته في المطالعة، وممارسة التّراكيب السّياقية التي تمكّنه من إطلاق طاقاته الإبداعية، ومهاراته اللغوية. إنّ المتأمل في الثّقافة العامة التي عليها الأطفال في الوطن العربي بشكل عام في مجال الكتب المترجمة يجد غلبة الطّابع الأدبي على الطّابع العلمي، وهناك الكثير من الأمثلة التي تؤكد زعمنا هذا؛ الأمر الذي أدى إلى خلخلة القيم المطروحة، وهذا يتجلى في تفوق الحقائق الاحتمالية، وضعف الحقائق اليقينية؛ مما يشير إلى أننا نعزز ثقافة الوجدان، ونكاد نهمل ثقافة العقل. فننمي جانبًا من شخصية الطّفل على حساب الجانب الآخر، الذي لا يقل أهمية عنه لتكوين استقراره النّفسي، ولتحقيق البناء السّليم لشخصيته التي ترتكز عليها قيم المجتمع، وتهتم بها النّظريات التّربوية الحديثة. إنّ التّوازن الذي ننشده من خلال الكتب المترجمة للأطفال يسهم في تعزيز القيم الإنسانية لديه للوصول إلى تحقيق نمو متكامل للطفل منسجم مع الرؤى التّربوية المعاصرة، ولكن إذا ألقينا نظرة على ما قُدِّم للطفل العربي من ترجمات واستخلاص بعض القيم منذ نهاية القرن التاسع عشر وحتى الآن، نلاحظ انعدام التّوازن بين حاجات الطفل وما يقدم له.

ولعلنا نتساءل عن التّأثيرات التي تتركها الكتب المترجمة على القارئ. فغالبية ما ترجم من حكايات، وقصص، ومسرح، وشعر نجده يأتي على حساب الكتب التي تحمل القيمة العلمية، أو الكتب التي تجعل الطّفل يفكر ويعي حقوقه وموقعه في المجتمع، أو الكتب التي تنمي قدرته على الفهم والحكم، وترجمة الرّموز إلى مشاعر وآراء تُغني أحاسيسه وتسهم في تنمية شخصيته وتدريبه ليكوّن رأياً فيما يقرأ. وفي هذا الشّأن يرى الكثير من الباحثين والمهتمين بأدب الطّفولة أنّ الطّفل العربي تأثر بالقيم والموضوعات التي قدّمها الأدب المُترجم، وهذا التّأثير له وجهتان إيجابية وأخرى سلبية نتفق في ذلك مع ما ذكرته المترجمة السّورية انطوانيت القس، فالوجهة الإيجابية كما تراها تمثلت في تعريف الطّفل بعادات وتقاليد الشّعوب الأخرى، وأنماط حياتهم المختلفة. وعلاقة الأطفال وتفاعلهم بمحيطهم وبيئتهم المتقاطعة مع عالم بيئته الشرقية. وتعزيز بعض القيم الإنسانية والاجتماعية والمعرفية، بالإضافة إلى الاستمتاع بالحكايات الشّائقة والشّخصيات القريبة من عالم الطفل، بينما ترى الوجهة السّلبية تمثلت في تركيز بعض الكتب المترجمة على العوالم الغريبة والعنف والعدوان والتّمييز العنصري والعرقي والخرافات، وكذلك توجه بعض الجهات إلى ترجمة نصوص لدول مُعينة تخضع لمنطق إيدلوجي معين، وهذا ما يتنافى مع تعاليم ديننا الإسلامي، وثقافتنا الحضارية. ويختلط أحيانًا السّلبي والإيجابي في توليفة جميلة محببة كما في "إليس في بلاد العجائب" للكاتب لويس كارول، وغيرها من القصص والمغامرات حيث تحمل هذه الحكايات الكثير من التّعاطف الإنساني إلى جانب تعزيز بعض القيم السّلبية، كالقلق والخوف والاضطراب من الظّواهر الخارقة والأشباح وعوالم باطن الأرض التي تجري فيها أحداث الحكايات. فنرى أحيانًا اختيارًا سليمًا، وأحيانًا اختيارًا رديئًا، مما أساء إلى معايير القيم وأسس اللغة التي توجه للطفل.

ولكي توضع ترجمة كتب الأطفال في إطارها الصّحيح، علينا أنْ نولي هذه التّرجمات عناية خاصة، وذلك بتشكيل لجان متخصصة لإقرار كتب الأطفال المؤلفة والمترجمة على حدّ سواء في سبيل التّنوع في الموضوعات، ونميز المضمون التّربوي واللغوي والفكري، وهذا كلّه يتطلب معايير عالية في التّقييم. لأجل استدراك النّقص. ولن يتأتى لنا ذلك إلّا بنشر أهمية العناية بثقافة الطفل، وإعداد كوادر متخصصة في أدب الطّفل، وتأسيس مؤسسة مرجعية تُعنى بنشر كتاب الطّفل بما يغني مكتبة الطّفل العربي، ويحقق التّوازن العلمي والأدبي والفكري واللغوي والتّربوي لعالم هذا الكائن الجميل.  

وأخيرا، في عصر التحولات الثقافية، والانفتاح العلمي، لم يعد بإمكان الطّفل العربي أنْ يكون بمنأى عن ثقافات الشّعوب الأخرى وعلومها التي يكتسب منها كل ما هو مترجم له ورقيًا وإعلاميًا في سبيل إغناء مخزونهم من العلم والثّقافة، وتوجيه أطفالنا إلى تربية استقلالية تحليلية ناقدة لمواكبة التقدم الحضاري والعلمي. لذا علينا السعي لإقامة منظومة لترجمة كتب الأطفال تقوم على أساس مشروع نقدي مقاوم، يعرف أنْ يختار في إطار جاد من التّواصل العلمي، والتّمازج الثّقافي.