عودة بعد رحيل!

هلال الزيدي

بينما الأفكار تحتدم وتتعارض، فتثير ثائرة الأنا وتنغمس في ضبابية الفهم، يأتيك الرأي الآخر في ثياب منمَّقة ومموثقة بحسب الواقعة التي تدور فصولها في تلك الفترة.. فيبني ذلك الطرف جدارَ صد لا يتزعزع عن أرنبة أنفه قيد أُنملة، فتتعقد الأمور وتصل ذروتها، فتنهار الذاتية التي أرادت بناء جسور تواصل، كون "المعنيّ" بها أراد أن يتركها معلقة ليتجرع من هو في المقابل حالة الصد المقيت الذي بني على التجاهل.. نعم إنه تجاهل يفضي إلى العُزلة، ويجر معه ويلات السقوط في حضيض الظنون.

ومع التحليلات ومحاولة وضع التفاسير، فإنه لا يؤمن بالقطب الواحد، وإنما يحتاج إلى صدى آخر، وتبادلية تحترم الوجود الإنساني، حتى لا يترك للتكهنات أن تستحكم وتنفرد بإعلان قرار الرحيل دون وجود مبرر متفق عليه من طرفي المعادلة.. لماذا تُنهى العلاقات الإنسانية بمجردات وتوقعات لا تلامس الواقع؟ وهل علينا أن نُصفّد احترام شخوصنا حتى نُنفّذ ما لدينا، ونعلن الرحيل؟

نعم.. إنه النذير الذي يعلن الرحيل؛ فالرحلة تحتاج إلى زاد حتى لا ينهكها المسير، والمسير يحتاج إلى وضوح حتى لا يودي بالمرتحل إلى أمكنة مجهولة، والأمكنة تحتاج إلى بوصلة تقرأ أبعادها ومآلاتها، والبوصلة تحتاج إلى موجِّه يُتقن الاتجاهات الأربعة حتى لا تضيع مع العواصف التي تعصف بها، والموجّه يحتاج إلى دليل يقرأ الواقع بكل تفاصيله، والدليل يجب أن يبتعد عن مصلحته الذاتية ليسلك الطريق المختصر دون الوقوع في المحظور، حتى يستطيع أن يسرد رحلته في قالب يتماشى مع عظمة المرتحل، وعليه أن يوغل في وصفه بدقة متناهية تعتمد على مجسات خفقان قلبه؛ كونها الدليل الذي لا يمكن أن يسلك طريقاً آخر.

"إن الطريق يدل على المسير.. والعواصف تدل على النذير"؛ لذلك عليه أن يمارس العقلانية دون إفراط أو تبديل، ومهما كان الدرب طويل إلا أن "الصحبة" تقلل عليه مشقة الرحيل إذا أراد المرتحل أن يتأبطه معه، أما إذا كان خلاف ذلك فما عليه إلا أن يُسرج له الليل ويؤمّن له زاده، ويدعو الله له أن يسهّل عليه رحيله؛ فبأي سبب سيبرر رحيله حتى لا يحدث شرخا في هامات أرادت أن تنظوي تحت لوائه؟ ولماذا المرتحل لا يعلن عن وجهته عندما يريد أن يتقلد الاغتراب؟ وهل يا ترى تصور حالة أولئك الذين سيلوحون له بالوداع بعد رحيله؟

بدأ الإحساس بالرحيل في تشكلاته؛ فالأحداث بردها وصدها أحد معطياته التي تلوح في أفق الحياة؛ لذلك انغمست المشاعر لتدرك شيئا من وجوده الذي لا يختلفان عليه؛ فقال لها: هل تودين الرحيل؟ فقالت: لا تعليق.. فقال لها: حقا! وهل التعليق سيفضي إلى شيء ندركه؟ أم أن التعليق الذي تمارسينه هو نوع من التعبير عن الرحيل؟ فلم ترد.. فقال في نفسه: هكذا نحن نتغنى بالحوار، لكننا لا نطبِّق أبجدياته، ولا يمكن أن نعطي مساحة حتى نسمع ما لدى الآخر.. نكتفي بما لدينا أو بما نقله الآخرون لنا في الوقت الذي أردنا أن نتقمص فيه دور الوجاهة الذاتية لنكون مهمين في محيطنا.

عندما همَّ بغلق عينيه رآها بين جفنيه.. فقالت له: أتغلق عينك وتخفيني عن الوجود؟ أجابها: أُغلق عيني حتى أؤمِّن لك مسار رحيلك الذي نويت أن تتوسَّديه.. لأنني أراكِ في كل رمشة.. وأشمك مع كل نسمة.. وأحدق في وجودك.. وأسرح في غيابك.. وأناديك فيرتد الصدى دون إجابة.. لكنني لا أتراجع.. فأحاول مرة تلو المرة؛ لأنني اشتقت إلى شوقك، ودغدغت غزلك وثورة غضبك.. فلماذا لا تثوري كالبركان في جسدي؟

ابتعدي لأجل أن تشتاقي حضوري، ولكن احترسي أن تتقني فن الغياب؛ لأنني لا أقوى على الحضور في غفلة الغياب؛ لأنني تمزقت كثيراً ولم أجد من يلمم شتاتي إلا أنتِ، فلا تكوني كمن لملمني ليعيد بعثرتي؛ فلا يمكن إعادة جمع جزئي وذاتي إذا رحلتِ!! كأنني أتحسَّس وخز السهام وهي تخترق كياني، لا يهم، من أجلك سأتحملها لكن تأكدي أنها ستُحدث ندبات لا تندمل عند خروجها.

نعم، سأسدن ذاتي في محرابك طوعاً، وسأسرج غيابك مهرة تأبى الرجوع، وسأتقمص الخشوع من أجل أن يهدأ بركان ذاتك، لا تتركي للوساوس أن تخدش كبريائي وتسربل ذاتها وتدنس ثقتي، ما عليك إلا أن تثوري من صمتك، فإن غمَّ عليك أمر، فواجهي وتغلبي على العاطفة بالعقل، ومهما كانت الكذبة هي السمة الغالبة ما عليك إلا أن تقلبيها على عقبيها لتبدو لك الحقيقة.

غمامة مثقلة بالمزن تنقشع مع توغل أشعة الحياة إليها؛ فبدا المحيط بهيًّا بتفاصيله، وعادت الألوان إلى شروقها.. إنه البياض الذي يولد الطاقات الإيجابية لتصنع مساراً آخر، ويتراجع المرتحل عن رحيله، نعم إنه عاد، ولا يهم بأي صفة عاد! أهم شيء أنه عاد.. فحللت سهلا ونزلت كريما.

------------------------

همسة..

قال الشاعر أحمد مطر: "هرم الناس وكانوا يرضعون، عندما قال المغني عائدون يا فلسطين، وما زال المغني يتغنى، وملايين اللحون، في فضاء الجرح تفنى، واليتامى من يتامى يولدون".

abuzaidi2007@hotmail.com