وتغرس الغُربة أنيابها أكثر

هشام الشماري - اليمن


ثلاثة أشياء  تحضرهنا كأضلاع المثلث حين تحشر الماضي القريب.  فمنذ أن تحزم حقائب القلب وللوهلة الأولى، حين تودّع أهلك،  وتطبع قبلة على جبين أمّك بعد عناق حارّ، وتجرّ قدميك اللّتان تخونانك.  تمشيان ببطء  كأنّهما لا تريدان أن تجرحا وجه الأرض وتقبّلان بأطراف أصابعهما.  تلوح بيدك مودّعاً وطنك  متّجهًا نحو المجهول. وبنظرات ممتلئة حبًّا تشيّعه كما تشيَّع الشّمس في لحظة الغروب..
تربط حزام الأمان صامتًا، شاردًا، ورجفة الرّاحل قسرًا تسري في كلّ ثنايا جسدك.  وما إن تقلع الطّائرة حتّى تشعر كأنّ شيئًا (ما) انتزَعَ أعماقك.
 ما إن تصل  إلى المطار، تتفحّص الوجوه الجديدة بلهفة لمعرفة وطنك المؤقت.  فكل شيء هنا جديد؛ المدينة بكلّ تفاصيلها، وجوه الناس، مظاهرهم، وحتّى الأشجار المتناثرة  على الرّصيف، تشعرك بغربة المكان.
وما إن تمرّ فترة وأنت في هذا البلد البعيد، تبدأ فيه كأنك ولدت من جديد، حتّى أنّ ذاكرتك تقوم بأرشفة أحداث جديدة بعد أن أغلقت فصل الوطن ولو مؤقتاً.
ثمّ تأتي فترة الدّراسة، والذّهاب إلى جامعتك الّتي ستحضتنك كجزء منها. تفتتح مشوارك هنا، تتعرف على زملاء في دفعتك، يداهمك الانسجام لفترة قصيرة، ليأتي بعدها فترة تشعر أن فراغ الوطن يجتاح أعماقك  فيثور الماضي بكلّ ثقله في وجهك. يستلّ سيف الحنين بقسوة، ويتغلّب قلب الشّوق على الذّاكرة الجديدة.
وهكذا هو حال الذاكرة كلّما عوّلت واعتمدت عليها في حالة ضعف تتركك وحيدًا، بل ستعمل ضدك أيضًا  بعد أن تفتح أبوابها. فتصبح الأرض أضيق من خرم إبرة. لا وسيلة لك إلّا أن تمشق قلمك لتقاوم  وتقاوم.
في داخلك ما يقول  لك إنّه يمكن  للكتابة أن تكون وطن بديلاً  في الغربة البعيدة. وإن لم تكن كذلك، فلتكن وسيلة تسمح "لشبحك القريب أن ينادي جوهرك البعيد" حسب تعبير درويش. ولكن على أي حال ثمّة علاقة مبهمة بين الغربة وحبّ الكتابة.
حينها تطلق العنان لقلمك بأن يكتب ويكتب. لا يهمّ أيّ نوع من الكتابة، لكنّها ممارسة (ما)، تشعرك بشيء من الزهو وتغلّبك على الغربة في الجولة الأولى. لكنّ صوتًا في أعماقك ينذرك بجولات كثيرة ويعوزك نفس عميق شبيه بمحارب إيرلندي فقد ذراعه وبقي في أرض المعركة، وقرّر أن لا يتراجع شبرًا واحدًا..
ينتهي فصل دراسيّ  وتأتي الإجازة. تستقبلها بفرح، وشيئًا فشيئًا تشعر بالفراغ يحتلك، وتغرس الغربة أنيابها أكثر. فهي قبل أن تكون غربة عن الوطن هي فراغ وجداني، وغربة للروح. فيها تسقط في وحل عيوبك الّتي غطيتها في وطنك بالأصدقاء، والعائلة، والمكوث طويلاً في الحيّ القديم.. ورغم تأرجحك، سرعان ما تعود للكتابة، وتشعر أنها تحتاج الى وقود، فتبدأ رحلتك مع القراءة، ليكتمل الرّكن الثالث": الغربة، الكتابة، القراءة.". ومن هنا تبدأ بتشكيل معادلتك البسطية، والمركبة في آن واحد تنغمس أكثر وأكثر في القراءة لتشعر بأنك حاضر وسط الغربة. ومن ثمّ تفتح لك أبواب الكتابة، لتقول إنك موجود وأنت بعيد، وكلّما قرأت كتاباً زاد انغماسك بالمعادلة التي اكتشفتها. وكأنّك عالم اخترع حلّاً لهذه المعادلة، فتظلّ حبيس معادلتك، مسجوناً فيها بلذّة، وتعشق هذا السّجن ، تنسجم وتشعر أنّك قمت بتشكيل وطن خاص فيك، يبدأ مع أوّل ورقة كتاب تقرأه وينتهي مع آخر حرف. الكثير من الكتاب الّذين احتفظ التاريخ بهم، هم من ولدوا في الغربة، أو عاشوها، وعانوا منها. فالغربة تلهمك أشياء كثيرة، وتُعبِّد لك الطرق لتستطيع الوصول إلى الأعمق في ذاتك، لتخرج منه كل قوتك الإبداعية.

تعليق عبر الفيس بوك