أبعاد استراتيجية (المحطة الأخيرة)

كيف نخطو إلى المستقبل

د. هلال بن سعيد الشيذاني

طرحَت هذه السلسلة في مسيرتها أبعادًا استراتيجية مختلفة، تطرقت إلى أهم ما رأيتُه مرتبطا بتقوية بناء الحاضر في الوطن العزيز، وتأسيس قاعدة المستقبل. فبدأت بأخلاقيات المهن للإنسان الذي هو محور الحياة بعمومها، وناقشت أبعاد الابتكار، والتنمية الإنسانية، والقوانين واللوائح، والمؤسسات الصغيرة والمتوسطة، والتعليم وغيرها، واليوم وفي آخر محطاتها الاثنتي عشرة، نقف للنظر نحو المستقبل، كي نبدأ ترتيب خطواتنا إليه.

يقول ربنا سبحانه وتعالى "أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ " (المؤمنون، 115). إن أول خطوات النظر إلى المستقبل هي حسنُ فهم الماضي، وأفضل نتيجة لتوقع النتائج، هي معرفة المعطيات. وعلى هذا فإن أهم خطوات بناء المستقبل الأفضل يكمن في القراءة الدقيقة والصحيحة للتاريخ. فكيف نقرأ التاريخ بصورة أفضل، لنبصر المستقبل بصورة أوضح؟

يقول أينشتاين: "إن الفكر الذي قاد إلى وقوع المشكلة لا يمكنه أن يوجد حلًّا لها". وعليه، فإن أول مراحل النظرة للمستقبل تبدأ بالحاجة إلى قياس مواءمة الفكر الحالي لرؤية المستقبل، وعلينا في هذا الشأن أن نكون أكثر شفافية مع أنفسنا لأن الوطن يستحق.

لا نختلف أن العالم يتغير بسرعة كبيرة، ومن أجل أن نتمكن من العيش في المستقبل، علينا أن نسير بسرعة التغيير أو نقترب منها، وهذا يتطلب الكثير من العمل لإنجاز المهام الموكلة لكل منا في مجال عمله، هذا من جهة؛ ومن جهة أخرى، فنحن نعيش في منظومة من العالمية المترابطة التي كانت تُشبَّهُ بالقرية الواحدة، وهي اليوم أقرب ما تكون إلى الغرفة الواحدة، فلا يكاد يظهر صوتٌ في ركن من أركان العالم حتى نجد أن كل العالم قد سمعه، ربما في ذات اللحظة. وبعد أن كنا ننتظر نشرات الأخبار، لنعرف ما يحدث حولنا، نحن اليوم نعرف ما حولنا حتى قبل أن تُكتبَ نشرات الأخبار. لكن معرفة ما يحدث ليس هو المهم، إذ المهم أن نتعلم كيف نكون سريعين بقدر سرعة التغيير. ويصف هذا روبرت كايوساكي بقوله "في العالم سريع التغيّر اليوم، ليس المهم ما تعرفه، فما تعرفه يكون قديما بسرعة، إنما المهم هي سرعتك في التعلّم. هذه المهارة لا تُقدر بثمن". فسرعة التعلم والتأقلم مع المعطيات الحالية، وربما تطويرها لتكون بسرعة وشمولية أكبر، هو الطريق ليكون لنا مكان في المستقبل القادم.

ويقول إددي أوبنج، مؤسس (WORLDAFTERMIDNIGHT)، "إن القرن الحادي والعشرين الحقيقي من حولنا ليس واضحا لنا، لهذا، فنحن نقضي وقتنا في الاستجابة العقلانية للعالم الذي نفهمه ونعترف به، لكنه لم يعد موجودًا". وهذا يصف حال الكثيرين منا في إدارتنا لحاضرنا، وحتى في نظرتنا لمستقبلنا. فنحن نبصر في الشرق والغرب أن العالم كله يسير بسرعة كبيرة، لكننا وكأننا نظن أن ما يعيشه العالم هو سرابٌ سينقشع يوما ما قريبا، والحقيقة أننا لا زلنا ننظر للمستقبل بعين الماضي والحاضر. ومن أجل أن يكون لنا محط قدم في حضارات المستقبل علينا أن نتابع ليس التقنيات العالمية الجديدة فحسب، بل علينا أن نبحث بحثًا عن التوجهات والمبادرات العالمية المقبلة. فحاضر اليوم، هو ماضي المستقبل، ومن كان لا يؤمن قبل قرنين من الزمن أن الطيران سيكون ممكنا، هو كحال من ينظر للمستقبل في ظل معطيات الحاضر.

       تشير القراءات الحديثة إلى أن واجهة المستقبل تكمن في تكامل القطاعات الثلاثة المكونة للدولة: الحكومة، والقطاع الخاص، والمجتمع المدني. فحتى تنجح خطط الحكومة عليها أن تبحث عن التوجهات المجتمعية وأن تعمل على دراستها بعمق وشفافية، وأن تسبقَ المجتمعات بتقديم الخدمات والمبادرات، فكما هو معلوم في علم الاستراتيجيات أن الطلبات تكون أكثر من الحاجة. ولهذا فحين تقدم المؤسسات الحكومية الخدمات التي يحتاج إليها المجتمع بناء على تخطيط مسبق وقبل أن يطلبها المجتمع، فإنها ستتجنب الوقوع في حفرة الطلبات. وبالتالي تكون لديها القدرة على توزيع الموارد المتاحة وتوظيفها بصورة أفضل.

أما القطاع الخاص، فإن المستقبل يحمل له مسؤوليات اجتماعية كبيرة ومتعددة. وهذه المسؤوليات الاجتماعية وآلية التعاطي معها وكيفية تخطيطها هي ما ستحدد دور القطاع الخاص وأي مؤسساته ترتقي في سلّم الولاء المجتمعي والرضا العام. وقد كانت القراءات التي قدمها "المنتدى العماني للشراكة والمسؤولية الاجتماعية" مؤشرًا مهما على أنه على القطاع الخاص الذي يرغب في أن يكون المجتمع معه، أن يمنح المجتمع نصيبًا من مكتسباته، وإلا فإن عدم وجود المجتمع في الصورة، سيؤدي عاجلا أو آجلا إلى فقدان هذه المؤسسات والشركات قدرًا كبيرا من مكتسباتها.  كما أنه على القطاع الخاص الذي يرغب في أن يكون جزءا من النجاح المستقبلي، أن ينظر من زاوية مختلفة إلى جمهوره وشريحة عملائه، وليس كالصناعة سبيلا إلى تحقيق ذلك. وإن من أوضح صُور التقدم في المرحلة المقبلة الجمع بين ثلاث ركائز هي: رعاية الابتكار ودعمه، ووضع المبادرات المجتمعية في أعلى قائمة الاهتمامات المؤسسية، والتركيز على تحويل الابتكارات إلى صناعات لها أسواق عالمية.

وأخيرًا وليس آخرًا، على المجتمعات المدنية ومن أجل أن يكون الغد مشرقًا، أن تسعى إلى ترسيخ الولاء الوطني وأن تدعم الانتماء للقيم الوطنية، مهما كانت المؤشرات غير مرضية للبعض؛ وعلينا أن ننظر إلى ما حولنا من العالم من أقصاه لأقصاه، ليس لنتعلم كيف نتقدم فحسب، بل قبلها لنتعلم كيف نحافظ على مكتسباتنا ونؤكد قيمنا التي من خلالها نظر وينظر إلينا العالم بكل تقدير. إن القواعد الأساسية التي بنتها الحضارة العمانية وأكدتها نهضتها الحديثة ليست محض صدفة أو نتاج مبادرة، إنما هي تأصيل لقيم متعمقة في المجتمع العماني بكل أطيافه وشرائحه، وهي رسالة نقدمها للعالم، لأن تأكيد استمرارها أحد أكبر مقومات الخروج إلى العالم باستراتيجية مستقبلية ناجحة. إن قطاع الاقتصاد اليوم يتوجه إلى العالم من خلال وجهه الإنساني الذي نملك منه الكثير ولسنا في حاجة إلا إلى المحافظة عليه وتأكيد قيمه في مجتمعاتنا وأجيالنا القادمة.

وبهذا فإن ثلاثية العمل المستقبلي المكونة من الحكومة، والقطاع الخاص، والمتجمع المدني؛ عليها ومن أجل أن نخطو إلى المستقبل خطوات تجد لها محلا فيه؛ عليها أن تعمل معا متكاتفة لا متفرقة، متعاونة لا متنافرة، متفقة لا مختلفة، ناظرة إلى الصالح الفردي من خلال الصالح العام، ولنتذكر حديث رسول الله عن أصحاب السفينة التي حلّ بعض منهم أعلاها وحل آخرون أسفلها.

تويتر: @abualbadr72

تعليق عبر الفيس بوك