فضاء الأصوات المتعددة في قصيدة (سماء متحركة)

حيدر عبد الرضا - العراق


إن القارىء لعوالم قصيدة (سماء متحركة) للشاعر عبد الرزاق الربيعي يرى بأن هناك ثمة هوية دلائلية مغايرة تؤكد على أن عملية مجريات الخطاب الشعري وأفعاله تنطلق من أساس زاوية أسترجاعية تأريخية محفوفة بشخصية قد تبدو شبه استدلالية واستشهادية ضمن حوارية سلمية الأشياء العابرة، حيث لا تكون لدى المتلقي أدنى حقيقة بمرجعية يقينية تلك الشخصية و التي راحت تتناقل أوصافها نقلية الراوي في القصيدة، في حين بقية الذات المتكلمة للشاعر بعيدة في مختزلاتها للأشياء والمشاهد ومحافظة في الوقت نفسه على سيرورة متصوراتها الآنية إزاء وقائع الذات العارفة، لترسم وتؤسس لها من جهة ما، تحقيقا لوعي آخر في معرفة الأشياء من منظور جهة الشاعر وحدها. وعند التدقيق في قراءة هذه القصيدة، نجد بأن صور و دلالات و تواصيف الكلام، قد لا تنبع دائما من وحي إيعازي بشفرات المعنى المدلولي المراد في ذروة الأخبار القصدي في القصيدة، و إنما نجد حقيقة تلك الأفعال الكلامية في النص، تكون نابعة عادة عن مجالات حضورية و غيابية مخالفة أحيانا لمشهدية المقطع الشعري الظاهر الدلالة والإيحاء، فالشكل الشعري في هوية نص الشاعر ، نعاينه على أنه محض شكل صوري منفصل عن معناه السياقي أحيانا، في وقت تبقى الذات الشعرية الواصفة في القصيدة، مضادا ملحوظا لأبنية الظاهر الدلالي من زمن وجود تقاطعات الموصوف بحكم بنية الباطن من وجهة الخطاب الأولي من القصيدة. في حين أن القارىء لقصيدة الشاعر لربما يندرج تلقائيا داخل موجات قرائية حيث يتجاهل عضوية أداة الشكل المكتوب وفضائه الذي استحال إلى مقوم مضاف وجديد من قائمة مسببات حالة تحول ما في الهوية المغايرة لخطاب دلالات النص. يقول الربيعي:
جلبت الخيول؟
أأحضرت
حزن المسافات
و دعت صمت القبور؟
جلبت ، أحضرت، ودعت
إذن قرب الليل
علق في كتف بزتك العسكرية.
إن المعايير العامة في شعرية قصيدة الشاعر ترتبط بحدود أداء انفرادي موضوعي يتصل ما بين (وصايا الدليل) و بين (احتوائية المصدر) وإلى درجة أننا نشاهد أن حركية الدوال تتأسس بموجب قوة كسبية خاصة في أنتاج مقومات (مكائد الخطاب) حيث السير بالأفعال المجازية نحو منطقة (المخاطب) ولربما تبقى في أحيان أخرى مساحة المشهد الخطابي داخل أفعال تخاطبية تتراوح ما بين أفق العلاقة و بين منظومة (القراءة / النص / المرسلة / المرسلة إليه) أي بمعنى ما إن فاعلية الانزياح الإنتاجي في النص تبقى ضمن مؤشرات ذات أغوار دالة من زمن (وصايا الدليل) و (احتوائية المصدر) وتبعا لهذا نعاين مثل هذه الجمل المقطعية (جلبت الخيول ؟ / أ أحضرت).
إن الحدس الإشاري في هذه الجملة لربما يشكل إيعازا ضمائريا في بلوغ القول مستوى موقعية شفرة توسعية في كيفية تحديد وأعلام موقعية المخاطب من سمات فضاء المرجعية المكانية من واقع ارتباط الفعل القرائي من طرف خارجية ضمير الدلالة الاستفهامية و المؤشرة في الوقت نفسه نحو مساحة قابلية تحقيق المرئي الخطابي من حيز فعل دال توكيدي والمتمثل بلفظة (أأحضرت) لتتشكل من خلاله علاقة حيزية منصبة من مستويات معنى دال (جلبت الخيول) وهذا الشيء التبادلي في رقعة الدال المؤشر سوف يمنح ذاته أنعكاسا نحو جملة (حزن المسافات) و هذه الصورية من علاقة المقطع الأول بالثاني سوف تبقى ضمن تسلسل عضوي ما بين حدود الموؤل و إظهارية الصوت الخطابي . غير أن حلول جملة (دعت صمت القبور) يمكن اعتمادها كدليل عام في حلقة المواصلة الكيفية نحو مساعي تجلي مسائلة زمن دال (جلبت الخيول) و بهذا الفعل سوف تشكل واقعة لفظة (جلبت) تصديقا أستفهاميا على طاقة و كينونة جملة (قرب الليل) لتكون موصوفا ألحاقيا يتغذى من آثارة و إمكانية دال (بزتك العسكرية):
منافي في الليل تهذي
وحين تنام المحطات تفتح أذرعها
تحت لسع الصقيع يسلم منفى على جاره
و يقول له: كل منفى
ولكن مأرب مات تركناه
نهبا لكل الرياح الشتاء العنيفة
يبكي وحيدا ..
إن الذي يضيء هذه المقاطع هنا، سواء دال (منافي) أو دال (المحطات تفتح) أو (لسع الصقيع) هو ذلك التراسل الاتصالي من إيحاء ملفوظ (وصايا الدليل) أي إن بنائية الخوارج الدالة في القصيدة تؤشر نحو تحولات مراحل الخطاب ما بين (المرسل/ المرسل إليه) لذا نرى صوت الراوي في القصيدة يبدو استحداثا داخل مشفرات تمثيلية مباشرة من وظيفة الموصوف المكرر، كما وإنه يبدو داخل فضاء من أصوات متعددة، ونصوص تتصل داخل صيغة زمنية دقيقة (مات تركناه/ و يقول له / نهبا لكل الرياح/ يبكي وحيدا). إن القارىء لمقاطع هذه المشهدية يلاحظ بأن هناك ثمة علاقة بين صورة (المنفى) ومصدرية ملفوظ (الاحتوائية التأريخية للمصدر) حيث إن الشاعر صار يدمج الحالات داخل ارتباطية المكان والزمان ودون أدنى فاصل تواصلي ما بين الحالات، فمثلا نقرأ هذا:
علقت الأزدي ..
يا مالك الريح ان أطفأت نارنا
من يدير كؤوس الندامى ؟
و هل يقطع الرمل عهدا على نفسه ؟
وهكذا دواليك مثل هذه الآلية التكنيكية من التداخل ما بين صوت الراوي الحاضر في النص و بين استجابة الدليل التأريخي المتناص عن كفة تلقائية الانغمار الصوتي للراوي في استعادة المؤول الحضوري لزمنية الدلالة: و من جهة أخرى لعل الشاعر حاول في نصه هذا إبراز ثمة وصوفيات هي تعد بمثابة المعادل البرهاني في موضوعية المكان و زمنية دليل لفظة (المنفى) لذا نرى هذا الدال راح يشحن مسافة الخطاب المتاح من خلال سياقية وافدة من فعل ممهدات صورية دوال (المحطات/ الليل / أشواقنا / الخطى / النهايات) وهذه الدوال المحورية في القصيدة أخذت تركز أفعالها الوظيفية من خلال صوت الراوي و دلالة محور التسمية من صورة مفهوم (أحتوائية المصدر) وهذه المصدرية بدورها أخذت تسعى بشكل آخر في دوال القصيدة لمحاولة أضمام دليل الشخصية التأريخية و الذي هو (مالك بن فهم الأزدي) داخل نسق زمام أفعال النص و داخل صوت الراوي التمثيلي في النص:
مساء الخريف المزمجر
هل لي بظل بلاد
ألوذ بخضرته
حين يحمر منفاي
و يسود جلد القميص المطرز ..
من هذه المقاطع نشاهد بأن صوت الراوي راح يسلم زمام القول والأفعال الشعرية في الكلام إلى صوت الشاعر ذاته، حيث تتمظهر دلالات الأنا الوصفية والتي هي ذات آواصر حميمة بتنوعات مشهد الأشياء (هل لي بظل بلاد/ حين يحمر منفاي). إن كيانية الحالات الوصفية هنا، تتخذ مساحة طابعية تماثلات الدلالات الذاوية في أعماق جوهر ضمائرية (صوت الأنا) أي بمعنى أن الشاعر صار ينعطف من حدود الموؤل التجسيدي للحالة الخارجية الوصفية إلى بواطن الصورة الكلامية من زمن القول الآخر للذات و من زمن (احتوائية المصدر) و تبعا لهذا راح يتناظر التوزيع الشعري ما بين (الباطن/ الخارج/ الحضور/ الغياب) لتتأكد للقارىء زمنية رقعة المفردة التي هي في الغالب الأعم تشكل مرجعية تحولات خطاب الدلالات.

تعليق عبر الفيس بوك