لن أعيش في جلباب المسؤول!

سيف المعمري

الوظيفة العامة هي تكليف في مؤسسات الدولة لخدمة أبناء المجتمع، يقوم به موظف يتحلى بأقصى درجات النزاهة والموضوعية والأمانة والإخلاص؛ تحقيقًا للمصلحة العامة حسب القوانين واللوائح المنظمة لعمل كل مؤسسة، على أنّ تلك القوانين واللوائح بالإضافة إلى المثل الأخلاقية النبيلة لا تستثنى من الالتزام والتقيد بها من قبل أي موظف في المؤسسة رئيسًا كان أو مرؤوسا.

إنّ كل موظف - رئيسًا أو مرؤوسا - في المؤسسة عليه أن يتقي الله في وطنه ومواطنيه، وأن يراعي حرمات الله في أدائه لواجباته الوظيفية بكل أمانة وإخلاص، وألا يجعل الوظيفة سلمًا للنفوذ والسلطة، وهذا ما أكد عليه مولانا حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم -حفظه الله ورعاه- في خطابه أمام مجلس عُمان عام 2008 قائلا: ".. لما كان الأداء الحكومي يعتمد في إرساء وترسيخ قواعد التنمية المستدامة على القائمين به والمشرفين عليه فإنّ في ذلك دلالة واضحة على مدى المسؤولية الجسيمة المنوطة بالموظفين الذين يديرون عجلة العمل في مختلف القطاعات الحكومية، فإنّ هم أدوا واجباتهم بأمانة وبروح من المسؤولية بعيدا عن المصالح الشخصية سعدوا وسعدت البلاد، أمّا إذا انحرفوا عن النهج القويم، واعتبروا الوظيفة فرصة لتحقيق المكاسب الذاتية، وسلما للنفوذ والسلطة، وتقاعسوا عن أداء الخدمة كما يجب وبكل إخلاص وأمانة، فإنّهم يكونون بذلك قد وقعوا في المحظور، ولا بد عندئذ من محاسبتهم واتخاذ الإجراءات القانونية المناسبة؛ لردعهم..."

إنّ المتتبع لتطور الجهاز الإداري للدولة يلمس وبكل فخر واعتزاز الاهتمام السامي الذي أولاه جلالته -أعزه الله- لكل ما من شأنه الرقي بالعمل المؤسسي ورفده بالكوادر المؤهلة والتنمية المستمرة لها، وتهيئة كل الإمكانيات اللازمة وتعزيزه بأحدث المعينات التقنية من أجل سرعة الإنجاز، وشفافية التعامل، وتوفير الجهد والوقت على الموظفين والمراجعين.

ومما يؤسف له حقًّا أن تجد حجم الإنجاز المبذول في مؤسساتنا لا يتناغم مع كل الإمكانيات البشرية والمادية والتقنية، والتي يشترك في تحمل مسؤوليتها كل موظف في المؤسسة، لكنّ المسؤولية الجسيمة يتحملها من يعتلي هرم المؤسسة سواء كان وزيرًا، أم وكيلا، أم مديرا عاما، أو مدير دائرة، فالمصلحة الوطنية تقتضي أن يكون مسؤول المؤسسة العامة على قدر كبير من الأمانة والإخلاص والمهنية وأن يحرص على تطوير مؤسسته ورفد كوادرها بالطاقات المنتجة وتنمية مهاراتهم وإبداعاتهم، بالإضافة إلى بناء جسر من العلاقات الإنسانية بين جميع الموظفين في المؤسسة رئيسا كان أو مرؤوسا، وإن حدث أي خلل في المؤسسة على عكس ذلك فإنّ ذلك مرده ضعف هرم المؤسسة وعدم أهليته لقيادتها إلى بر الأمان.

وكم يحدونا الأمل أن نرى ونسمع عن القيادات المؤسسية التي تكافح من أجل أن تسعد الموظفين وتهيئ لهم الأمان الوظيفي، وتتفانى في خدمة أبناء المجتمع انطلاقا من رؤية المؤسسة ورسالتها السامية، ولكن نماذج تلك القيادات لا تزال شحيحة في مؤسساتنا بل يمكن أن نعدها عملة نادرة، مع يقيننا بأنّ مجتمعنا فيه من الخيرين وأصحاب الطاقات الكثر، لكنّهم تم أقصاؤهم وأصبحوا في سجلات المهملين، بل والبعض الآخر في سجل المستقيلين.

ينتابني ألم شديد وأنا أسمع وأشاهد بعض القيادات المؤسسية وقد انفلت منها زمام القيادة، وخلعوا جلباب الأمانة والمسؤولية، وأقصوا المخلصين ممن يشار إليهم بالبنان في مؤسساتهم، وانخدعوا بغيرهم، وضحوا بكفاءات المؤسسة بقرارات رعناء إلى زاوية الإهمال، وحاولوا أن يفرضوا عليهم أمراً واقعا، وهددوهم بالانصياع لقراراتهم من أجل الانصياع فقط، ليس لأنّ المسؤولين أدركوا مصلحة العمل في المواقع الجديدة للموظفين، بل لأنّهم كانوا يريدون الموظفين أن لا ينطقوا بكلمة (لا) حتى وإن كانت آراء وقرارات المسؤولين لا تخدم مصلحة العمل، فكانت النتيجة الحتمية استقالات نوعية؛ لتخسر المؤسسات كفاءاتها، ولسان حال تلك الكفاءات تقول:" لن أعيش في جلباب المسؤول!"

والعجب كل العجب أن تفشل بعض القيادات المؤسسية في احتضان آراء الموظفين والمراجعين، وتتشبث بإجراءاتها وقراراتها الخاطئة، بل وتعجز عن حلحلة عدم الانسجام بين موظفي المؤسسة، فتكون النتيجة المؤلمة اعتراف المسؤول بالفشل في الحل، والدعوة إلى القبول بالأمر الواقع، وهو الذي لا يقبله أصحاب الهمم والمبادئ النبيلة.

قدّموا استقالاتهم، ليس لأنّهم يريدون الاستقالة، بل لأنّهم ترفعوا عن الارتماء في أحضان المسؤول الذي لم يقدر خبراتهم وبخّسَ حقوقهم.. استقالوا لأنّهم تساموا بأنفسهم أن تتشابك أيديهم –عن غير قصد- في يد المسؤول للانزلاق بالمؤسسة إلى الفشل، ودّعوا المؤسسة بلوعة ألم الوداع، وبسمو معادنهم، وحفظا لكرامتهم، ولم يرغبوا أن يعيشوا في جلباب المسؤول الذي تمادى في الفشل، ولم يجد من يردعه!           

فبوركت الأيادي المخلصة التي تبني عُمان بصمت،،

saif5900@gmail.com