موعد مع الياسمين.. تفاصيل بحجم الكون (2)

سهى عبود- طرطوس - سوريا..

 

فتحت عيني على ابتسامة أمي وهي تقول لي:
- صباح الخير ”سوسا”، كيفك اليوم؟؟.. هل ما زلتِ تشعرين بالألم؟
- صباح النور يا أعذب وأحلى أم في الدنيا.. كل شيء تمام، بفضلك ورعايتك.. يا أم السعد..
حاولتُ لمس صدري، لكنها منعتني قائلة:
- لا تتحركي الآن.. ارتاحي.. ستكونين بألف خير..
لم أكن أفكر في الأمر، من قبل، أجبت فقط:
- متى يمكن ذلك؟.. وَجَبَ عليّ الذهاب إلى عملي.. وأنفض كل التعب، وأتخلص من بقاي الزكام.. حبيبتي..
وهكذا وجدتني، أتفق على أمر لطالما رفضته. ما الذي جعلني أغير رأيي عن حياتي و نمطها؟!
أهو عزمي على معانقة الحياة من جديد؟ أهو الحب الذي يصالحنا مع أجسادنا؟..
لم أكلم أمي في الأمر ولم أستشر أحدا من أصدقائي.. كان قرارا شخصيا جدا.. حميميا جدا..
كيف لا أصبر على زرع جمال الحياة وقد صبرت على من يريد استئصالها من جنة الله على أرضه؟..
قد تقنعك ابتسامة عابرة، أو رعشة، أو مجرد أمل غامض بفعل شيء بعد أن فشلتْ في إقناعك كل النظريات والمسلَّمات..
يؤلمني صدري، نعم، لكنه ألم مشوب بلذة.. كألم الحب..
الألم هو الشيء المشترك بيننا جميعا كبشر، ليس حكرا على أحد..
لملمت الألم وجسدي، ووصلت باكرا إلى مكتبي، ومعي بعض الكتب التي أصبحت مواظبة على قرائتها، منذ رحيلي إلى بيتي الجديد في القرية، حيث قررت أن أعيد ترتيب حياتي من جديد..
وهكذا أصبحت أرتاد مكتبات ”المنشية” بطرطوس المدينة، في شارع تجاري خاص بكل ما هو جديد في عالم الكتابة؛ وأقرأ كل ليلة قبل أن أنام وكثيرا في النهار يوم إجازتي.. كما عدت إلى الكتابة بانتظام كمُكمّل لعلاج روحيّ بدأته صدفة منذ أكثر من سنة ونصف على يد كاتب، عجّل بإدماني على الحروف ثانية.. كاتب يلقبه أصدقاؤه بـ“قيصر الكلمة”، لكنه يرفض اللقب، ويحب أن ينادوه بـ“المهلوس”..
بكل اختصار: قررت أن أحيا..
فتحت صفحتي على فيس بوك، من هاتفي، كما أدمنت كل يوم، وإذا بنصِّ من نصوصه يقفز إلى بصري:
”سأسافر، حيث ضجيح القناديل الساهرة..
حيث، تنتحر القُبل..
ويتساقط العطر مذبوحا..
من قوارير الليل..
لأجرد ذاتي..
لأغسل لهفتي بكحل يتهاوى ليلا..
من سهد جفون عينيك..
من ضفائرك..
أفرغ قلبي من كل شيء..
وأملأه بك ومنك..
وأعدُّ نبضي، ذات غرق فيك..
إلا من بعض همسك.. والكثير من الشوق..
يا أنتِ...
سأقفز فوق الزمن..
وأصلب الانتظار فوق سارية من جمر..
إليكِ أنتِ يا ”صمصوم” القلب..”
نطّ قلبي من بين الضلوع.. لا أظن نصا كان سيسعدني أكثر من عودته إلى الكتابة.. يغمرني إحساس بانتصار ما.. أودُّ لو أصرخ، لو أرقص، لو أطير إليه..
لا بد أن أحضر أمسية من أمسياته الشعرية.. لكن بأية صفة؟ وكيف أضع نفسي في مهب الضياع وقد لزمتني شهور؛ بل أعوام للشفاء؟ وهل شفيت حقا؟ وما معنى هذا الاندفاع؟..
لكن، أليس لي الحق في الاحتفال بشيء ساهمت في تحقيقه؟ وقد أعدته إلى الكتابة وهو الذي لا يعلم أنه قد أعادني إلى الحياة..!!
لا بأس.. لا زال أمامي دهر لاتخاذ قرار صائب..
وهل باستطاعتي اتخاذ القرار الصحيح، بعيدا عن محيطي وعائلتي، وقد شُلت قدراتي الفكرية من جديد؟.. كبركان خارج من سباته أصبحت أغلي.. لا أستقر على شيء..
أنام على ”لا” وأستيقظ على كل المبررات الضرورية لـ“نعم”، وكالمراهقات أنتظر إشارة من السماء، لو أمطرت فـ“نعم، ولو أشرقت الشمس فـ“لا” أو ربّما العكس..
أووووف.. لا مانع من حضوري قراءة شعرية ككل الناس.. لن يعترض أحد... أليست الدعوة عامة؟..
غير أني لست ككل الناس، أنا من شرّح نفسيته داخل وَكْر ”الماسنجر”، وسيكون حضوري بمثابة اللعب بالنار..
لكنه في الوقت نفسه سيكون تتويجا بالنسبة إليه. سيسعده حضوري لا محالة خاصة، وأنه لا يعلم بحقيقة شعوري نحوه..
لكنني أنا أعلم وهذا يكفي. لقد صمدت لشهور أمام رغبتي في لقائه والتحدث إليه. ولولا الحرب القذرة على بلد الياسمين، لما كنت الآن أتأرجح بين قلبي وعقلي..
نهاية الأمر:
لا أعلم قراري النهائي، ولا كيف وجدتني أرتعش في كرسي مكتبي ورسالته تطلع من ”الماسنجر”، حاملة رابط أغنية ”ريم بندلي”، وأنا أسمع صوتها كعزف كمان شجي:
“غسِّل وجهك يا قمر ... بالصابونة والحجر
وينك يا قمر؟
عَمْ غَسِّل وجهي..
مشط شعرك يا قمر .. والمشط الحلو انكسر ...
وينك يا قمر؟؟؟
عم مشط شعري...
طل القمر.. والقمر قنديل كبيييييييييير..
معلق بالشجر والشجر عالي عالي كثييييييييييير...
يا قمر ضَوِّي..
يا قمر ضوي..
عالدني ضوي ..
ع الدِّني ضوي ..
بِدِّي منك يا قمر تكرج على غصون الشجر وتنزل عالدبكة...
أنزل عالدبكة؟
غَسِّل وجهك يا قمر ... بالصابونة والحجر ...
وينك يا قمر؟؟
عم غَسِّل وجهي..
مشط شعرك يا قمر .. والمشط الحلو انكسر ...
وينك يا قمر؟؟؟
عم مشط شعري
هب الهوا يا هوا مرجحني وطيييييييييييير..
ونعلي سوا يا هوا متل العصافيييييير..
ياهوا علي..
يا هوا علي..
ع القمر علي ..
ع القمر علي..
حتى نقلو للقمر يكرج على غصون الشجر وتنزل عالدبكة...
أنزل عالدبكة؟
غسل وجهك يا قمر... بالصابونة والحجر...
وينك يا قمر؟؟
عم غسل وجهي..
مشط شعرك يا قمر.. والمشط الحلو انكسر...
وينك يا قمر؟؟؟
عم مشط شعري..”
أحب كثيرا رائعة المغنية ”ريم بندلي”.. تذكرني بطفولتي وأنا أرقص على الطاولة من أعلى سنواتي الخمس ووالدايّ يتطلعان إليّ بحنان وإعجاب..أتذكر نفسي، وأنا بتنورتي الايرلندية المزركشة، وضفائر شعري يتدلى منهم "دبوس" كالفراشة بلون ورديّ.. جواربي طويلة بيضاء وحذاء أسود دون كعب.. قميص أبيض وبلوزة صوف خمريّة اللون، عطر براءة يفوح ويطير مع كل طرب ودفء منبعث من أركان المذياع قرب المكتبة.. وكرسي جدي، وغليونه الأسود الراقي..
ااااه.. وتلك المكتبة، وأغنية الراديو، فكلما سمعتها اشتعل فيَّ الحنين. لكن أن يوقظها هو فيّ.. فهذا ما استقبلته كإشارة من القدر..
على الخاص، وبين طيات ”الفايسبوك” ودهاليز ”الماسنجر”.. كان يكتب.. ويكتب.. وأنا أقرأ.. وأقرأ.. أسمع ترتيلا كإسراء بالروح إلى أقرب مقام إلى الله.. والليل لا ينجلي.. ورفقته نجمة تضيء شرايين كياني.. قشعريرة لذيذة تنتابني، كلما كان يحكي حكاية لتنبت حكاية..
لا وجود لأحد في عالم افتراضي غيرنا.. أرتشف كلّ كلمة تخرج من أنامله كقبلة حياة..
انتبهت وقد دخلت بعض صديقاتي الموظفات إلى مكتبي، محيين.. وما حملتني قدماي.. فكيف أقوى على الوقوف وجسدي لو أطاوعه يركع لأداء فاق كلّ تطلعاتي؟؟
يا الله.. أحببتَ خلقك حين مَنَحته سحر الكلمة..
جلست على طرف المكتب ووقف كل من بالقاعة، في نصف دائرة، نتبادل همس الصباح وابتسامة الأمنيات لا تفارق وجوهنا..
أتصيّد اللحظة، فلا زال بإمكاني الانسحاب في هدوء، وسأفعل بعد أن أستردّ أنفاسي..
ها أنا أمامه، على شفا ”الماسنجر”، وقد انصرف الجميع، تقريبا، وأنا أشعر بنظراته، عبر الأثير، تخترقني وابتسامة عريضة تحتل محيَّاه، ويكتب:
”إلى من أعادت روحي إلى أبراجها..
بعضا من روحي..
مع امتناني ومحبتي التي لا تنضب..”
هل شكرته؟ هل ألقيتُ التحية؟ لا أذكر.. لا أذكر سوى أنه كتب لي:
- ”لا شكر على واجب، يسعدني أن أحسد لوحة مفاتيح هاتفك، وأناملكِ تخزُها.. فأنا مدين لك بأشياء كثيرة.. سوف أتصل بك لاحقا، ريثما ينتهي دوامكِ..”
وضعت الهاتف في حقيبة القلب، وخرجت، وصدى كلماته لا تزال ترنّ في أذني، وتنزّ وميضا في عيوني..
جلست بأول مقهى صادفته بطريقي.. ثَمَّة قراءات لا تحتمل التأخير..
كم مرة قرأت الإهداء؟ وعيني لا تكل من ملامسة حروف خطّتْ بقلم حبر أسود..
“إلى من أعادت روحي إلى أبراجها”..
لم يكتب إلى الآنسة فلانة ولا إلى السيدة فلانة ولا حتى إلى فلانة..
بعض التفاصيل تكون بحجم الكون..
ثم أهداني بعضا من روحه..
ثم عبّر عن امتنان ومحبة لا تنضب.
لم يكتب مع ”المودة والتقدير” كما هو الحال في أغلب التوقيعات ولا ”مع تحياتي”.. كان إهداءً خاصًا بي.. وعلى خاص ”الماسنجر”.. غير قابل للتعميم..
لكن.. كل الكلمات التي كتبها في الإهداء تعبّر عن العنوان: ”إلى من أعادت روحي إلى أبراجها”..
إذا كان من الطبيعي أن يكتب جُملا تعبر عن عودة الروح إلى أبراجها وأن يهدي بعضا من روحه، باعتبار الكتابة نزيف الروح، وأن يعبر عن امتنانه لعودته الى عالم الكتابة. أما المحبة فهي ليست حبّا. وأما عن اسمي فربَّما قد نسيه.. وماذا عن أغنية ”ريم بندلي” ودلالة كلماتها، وتوقيت إحيائها من لَحْدِ قلبي..؟ وماذا يقصد بحسده للوحة مفاتيح الهاتف وأنا أخزُّها بأصابعي..؟.. غريب..!
لكنه قال: إنّه مدين لي بأشياء كثيرة.. مثل ماذا؟.. قد تكون معاقرته للشعر والنثر، أو خروجه من اكتئابه، أومصالحته مع نفسه، أو أشياء أخرى عِلمُها في الغيب..
صدقا، فهو فعل معي أكثر مما فعلته معه، هو من جعل الابتسامة تشرق من عيوني، وتغرب على أمل الغد الجديد، لا تعكر أماني الناس في بلد أنهكه الدفن: دفن الشهداء.. دفن المتطلبات.. دفن الابتسامات.. دفن الحلم.. دفن السعادة..
بلد يعزف الفرح بأزير الرصاص، يرقص على عويل البكاء، يحتفي بالشهيد ويلد مشروع شهيد آخر يقدمه قربانًا للحرية والشعر..
ااااه.. يا بلدي.. كل الياسمين التي تنبتُ بين أحضانك ارتوت بدماء ذوي القربى..
لكنه، وهذا بالتأكيد غير قابل للتأويل، قد قال: ”سوف أتصل بك لاحقا، ريثما ينتهي دوامكِ..”
وما معنى لاحقا؟ ولا شيء نسبيّ كالزمن.. رغم أنه حدده بانتهاء دوام عملي.. من قال إنه ربما سينسى.. أو بالأحرى تنسيه إحداهن، وما أكثرهن على لائحته.. على طول جداره، وتحت كل كتاباته يتحرشن به، فأنا، أنثى، وقلبي دليلي.. لكنه وللتاريخ، هو لايحرك ساكنا.. ربما على الخاص، تقع جرائم تشبه جرائم الحروب..
كم من الوقت قضيت في المقهى، أمام فنجان قهوة لا أنا شربته، ولا هو ساعدني على فك غموض يُعصرني.. وحدها منفضة السجائر شاهدة على حيرتي..
قمت، والشمس تتوسط كبد السماء، وقد بدأ النادل في تنظيف الأرضية المبللة بآثار زبائن من تعب وذهب.. وجمع كراسٍ متعبة، اعتادت أن تنام فوق الطاولات..
وما قرأت بعد سطرا واحدا من كتاب تأبطته تفاديا لعيون رواد المقهى..
كنت، فقط، أنتظر أن يتصل بي..
يتبع....

تعليق عبر الفيس بوك