كيف ينبغي قراءة الإعلان الحكومي؟

 

د. عبدالله باحجاج

منذ يوم الأربعاء الماضي، والفرحة تعم كل بيت عماني، ففي ذلك اليوم عاد الأمل إلى جيل الشباب بأكمله، وأصبح كل شاب ممن يندرج في فئة الباحثين عن عمل، منشغل بتثبت اسمه ضمن الناشطين في سجل القوى العاملة، أو مسجلا اسمه في كشوفاتها لأول مرة، متطلعين بشغف إلى استحقاقات (25) ألف وظيفة في ديسمبر المقبل، كمرحلة أولى، جاءت في إطار حرص عاهل البلاد- حفظه الله ورعاه- في التجاوب والتناغم مع جيل الشباب.

هي فرحة مجتمع بأكمله، وبالتالي الوطن من أقصاه إلى أقصاه، ففي كل بيت على الأقل باحث عن عمل، أو في طريقه لدخول التصنيف قريبا، وحتى لو كان في مقاعد الإعدادية، فإن مضامين الإعلان الحكومي يوم الأربعاء الماضي الخاص بالوظائف قد جاء ليفتح مرحلة جديدة مع الشباب في قضية الشغل والتعمين، ليس من منظور الظرفية الضاغطة وإنما من المنظور المستقبلي كذلك، وها هو الأهم، وقد نجد فيه الفارق بين معالجات عام 2011، ومعالجات عام 2017.

وهذه المقدمة، تجعلنا نحلل الإعلان الحكومي الصادر يوم الثالث من أكتوبر الجاري من ثنائية ذلك المنظورين المهمين، الدافعين لإطلاق الطموحات والآمال.. لكن، تظل القضية الآن في التطبيق، وكيف ستتمكن الأجهزة الحكومية من تنفيذ الإعلان الحكومي بثنائيته المتزامنة؟

الحرص السامي .. دلالته وتوقيتاته

تستوقفنا منذ الوهلة الأولى مفردة، الحرص السامي، الواردة في مقدمة الإعلان الحكومي عن الوظائف الجديدة، وقد جاءت بديلة عن المفردات المتعارف سابقا في الخطابات الحكومية التي كانت تتبنى مفردتي، الأوامر والتوجيهات، وهذا له دلالة سياسية تنم عن الأولوية الأولى لقضية الباحثين عن عمل في الاهتمام السامي، بدليل التدخل في التوقيت المناسب، بعد أن بدأ الخارج يتقاطع مع شأننا الداخلي في قضية الباحثين عن عمل، وينحو بها نحو مناح سياسية بعيدة كل البعد عمّا يرمي إليه الشباب أصلا.. محاولا استغلال نفسياتهم، والأفق المسدود أمام استحقاق حق العمل، وبذلك، يكون عاهل البلاد حفظه، قد جنب البلاد مجددا حالة احتقان جديدة، مرشحة للتصعيد والاستغلال الخارجي. وهنا، يفرض علينا التحليل الموضوعي طرح التساؤلين التاليين:

لماذا لم تتحسس الحكومة مخاطر هذا الواقع ببعديه الداخلي والخارجي مسبقا، خاصة ولدينا تجربة سابقة يمكننا الاستفادة من دروسها ونتائجها؟ وكيف تركت للمرة الثانية تتأسس ثقافة مجتمعية سلبية حول أسلوب الحكومة في العمل تحت ضغوطات ردة الفعل؟

في هذين التساؤلين، تظهر لنا إشكالية في الوعي بخطورة الاستجابة الحكوميّة للمطالب المجتمعية تحت قوة ردة الفعل، فكان ينبغي العمل ضمن خطط ممنهجة لاستيعاب أعداد الباحثين عن عمل بصورة تلقائية وديناميكية بعيدا عن منهجية ردة الفعل وضغوطاتها. فقد كان من المعروف أنّ هناك استحقاقات لا يمكن تأجيلها، وهي تتصل بحياة المواطنين اليومية والمستقبلية، فكان الأحرى بالحكومة أنّ تستوعبها من خلال الخطط، وهذا التكرار هو العجز التنفيذي للأداء الحكومي، مثل ما حدث عام 2011 يقابله العكس تمامًا، وهو الأداء السياسي الحكيم من لدن عاهل البلاد المفدى حفظه الله، الذي يتدخل دائما في الأوقات المناسبة لمواجهة التحديات فورا، ويكون لها الأثر الفوري في النتيجة الإيجابية، بل ويتحول المسار مباشرة إلى إعلاء الوطنية، والتمجيد برمزية القائد، وتاريخيته في الدولة العمانية الحديثة.

فهل سيظل الأسلوب الذي تتعامل به الحكومة في الاستجابة لمثل هذه الحقوق قائما؟

يطرح هذا التساؤل قضية لابد أن تشبع نقاشا، وتحليلا، وهي الغائبة عند الرأي العام ربما بسبب قوة تركيزهم على الوظائف الآنية أكثر من التفكير في المستقبل رغم أهميّة المسارين، وتزامنهما، لأن نخشى أن نأتي بعد ثلاثة سنوات، أو أقل، وتتجدد نفس قضيّة الباحثين عن عمل، ويتقاطع معها الخارج، فهل الإعلان الحكومي يعالج هذه المسألة المهمة؟ المتأمل في الإعلان الحكومي سيجد فيه إدراك حكومي واضح لهذه المسألة المهمة. نرصدها هنا في مسألتين؛ الأولى: الكشف عن خطوات تنفيذية سيتم تطبيقها بالتزامن مع توظيف (25) ألف باحث، لم يتم تحديد ماهيتها، لكننا ندرجها في هذا السياق، وذلك استنادا لما يقوله الإعلان بأن هذه الإجراءات التنفيذية سوف تهيئ الظروف المناسبة التي ستمكن الحكومة من الاستمرار في استيعاب المزيد من الباحثين عن العمل وفق الخطط والبرامج، وهذا الأسلوب الصحيح الذي يتناغم مع مسار دولة المؤسسات والقانون التي أسسها عاهل البلاد حفظه الله، وهذا هو الأصل الذي ينبغي الرهان عليه في البناء وفي مواجهة مختلف التحديات، أي أنّ عملية الاستيعاب ينبغي أن تكون سنويا، فهل سنودع مرحلة التراكم العددي للباحثين عن عمل؟

والثانية: نجدها في لهجة التشديد الحكومي الموجهة للقطاع الخاص في حالة عدم تجاوبه مع سياسة التشغيل والإحلال والتعمين، نجدها في فقرة دعوة مجلس الوزراء جميع المؤسسات الخاصة إلى المبادرة وتحمل مسؤولياتها الوطنية في مجال التشغيل وتوفير بيئة العمل الجاذبة للعمانيين وإيلاء التعمين والإحلال الأولوية القصوى في برامجها ومشاريعها، مذكرا بلغة مشددة بأنّ هناك إجراءات سوف تتخذ تجاه من لا يتعاون مع جهود الحكومة في مساعيها الرامية لدعم سياسات التشغيل والتعمين. لكنه لم يكشف حتى الآن طبيعة هذه الإجراءات حتى يمكننا الحكم على مدى نجاعتها، فلماذا لم تنشر؟ نشرها يعكس مدى الجدية وقوة الإرادة الجديدة للتوجهات الجديدة، ويقابلها في الوقت نفسه، دواعي الصدقية والمصداقية المجتمعية في الجهود الجديدة، وهي في غاية الأهمية خلال مرحلتنا الوطنية الراهنة.

لقد أوضحنا من خلال ما تقدم، أن الإعلان الحكومي بشأن الوظائف جاء ليحتوي قضية الوظائف من منظوريه الآني الضاغط، والمستقبلي حتى لا تتكرر معنا مواقف 2011، لكن الهاجس يظل في التطبيق، فهل سيناط باللجنة الوزارية التي شكلت في أواخر شهر يناير 2017 أم أن هناك آلية عمل أخرى جديدة؟

في ضوء ما جاء في الإعلان الحكومي من حلول آنية ومستقبلية لقضية الباحثين عن عمل، وما يشكل ملف الباحثين عن عمل من تحديات دائمة لبلادنا، وقد تسبب صداعات قوية، يحتم تشكيل هيئة عامة مستقلة للشغل، تكون مهنية ومتخصصة وذات كفاءة عالية على غرار تجربة الهيئة العامة لحماية المستهلك، وتكون بدرجة وكيل وزارة، وتتبع المؤسسة السلطانية مباشرة، متناغمة في ذلك مع الحرص السامي الدائم بهذه القضية، وتناط بها ترجمة الإعلان الحكومي، ومتابعة تنفيذ خطط التوظيف والتعمين والإحلال في كل القطاعات العامة والخاصة، وكذلك البحث في توفير فرص العمل، ويكون لها الحق في الإحالة القضائية بعد إصدار تشريع رادع يحدد العقوبات المترتبة على الكيانات المعنوية في حالة عدم التقيد بسياسة التوظيف والإحلال والتعمين، على أن ينشى قضاء خاص ومستعجل لملء هذه القضايا على أن تنشر أحكامها للرأي العام.

وما نقترحه هنا، يرتقي ويدعم قوة الإعلان الحكومي ومساراته الجديدة، ويضع كل قطاعات الدولة أمام مسؤوليتها الوطنية، فقد رأينا تنصل الكثير من القطاعات الخاصة الكبيرة في تحمل تبعات التوظيف في عام 2011، وكذلك عشوائية التوظيف، ورأينا كذلك مسارات توظيفاتها الأجنبية في مناصب يمكن أن يشغلها عمانيون.

آن الأوان لهذه الشركات الكبيرة الخاصة والعامة أن تنفتح على مسارات الشغل والإحلال والتعمين لمصلحة كل الأطراف، كما أن أهمية هذه الهيئة المستقلة تكمن كذلك في أنّها ستكون متحررة من البيروقراطية الحكومية، ومن ميكانيزمات عملها، وستطلق منصات ذهنية لتوفير فرص العمل آمنة للشباب. ولنا في تجربة منطقة القصيم بالسعودية نموذجا للفكر الجديد، فهذه المنطقة قد قادت فكرة توطين (سعودة) المولات مئة في المئة، ووفرت أكثر من (7) آلاف فرصة عمل للسعوديين، نموذج نقدمه هنا للتدليل على أهمية إعمال الفكر المستقل في إدارة قضايا بلادنا الملحة، ففكرة التعمين في المولات، لماذا لا نطبقه في المولات الحكومية الجديدة، كخطوة أولى، وهذا مقترح مدير عام القوى العاملة بظفار أثناء لقاءنا معه أمس بالصدفة، وهو جدير بالبحث والمناقشة كي يتم تطبيقه في بلادنا بعد دراسته، وإيجاد البيئة المواتية لتطبيقه.

وأخيرا.. يمكننا القول إن العبرة لن تكون في الإعلانات الحكومية، وإنما تطبيقاتها، وتطبيق الإعلان من منظور تلك الثنائية، هو الأهم الآن، بعد أن تمكن عاهل البلاد حفظه الله ورعاه من إخماد احتقان في الوقت المناسب. لكن، لماذا تركت مؤسسات الدولة لقضية الباحثين تجدد احتقاناتها للمرة الثانية في فترة زمنية قصيرة نسبيا؟ من هنا، نرى أن الإعلان الحكومي الذي جاء ترجمة للحرص السامي على الشباب، لابد أن تتوفر له البيئة المواتية للنجاح حتى لا يتكرر الفشل التنفيذي مرة ثالثة، فذلك سيكرس ثقافة استحقاق الحقوق تحت الضغط، وهذه لا تصلح في دولة أسس فيها عاهل البلاد حفظه الله دولة المؤسسات التي هدفها إدارة البلاد، والعمل على ضمانة تحقيق أهدافها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية...إلخ وفق الخطط والبرامج المتعددة الآجال، وليس أسلوب الاستجابة للحقوق تحت الضغط.