بطونٌ منتفخةٌ.. وأُخرى خاوية!

هلال بن سالم الزيدي

لم يكن صباح ذلك اليوم، صباحاً عادياً في شروقه واسترسال أشعة الشمس في جسد الكون.. ولم تكن تلك الأنفاس في زفيرها وشهيقها تتنفس خفقة عطر طبيعي.. ولم تكن المسارات منبسطة ومستوعبة لما يحدث عليها.. ولم تكن جميع الوجوه حاضرة في مشاهد ذلك اليوم.. ولم تكن نغمات المذياع متفائلة.. أتعلمون لماذا لم يكن كل ذلك إيجابيا؟ ببساطة شديدة.. عفواً عفواً.. اعتذر لكم، دعونا نترك التفسير الآن، ونعود لوصف ذلك الصباح أكثر فأكثر.. نعم ذلك الصباح كشف عن جسد أرهقته الأحداث، وتناوشته الأفكار وشتته عقول يعتقد بأنها بشرية، حتى صعب عليه التعرف على الأقنعة المتبدّلة، واحتار في اختيار الأسلوب الذي ينهي مسلسل الكذب في منظومة لا أريكم إلا ما أرى..

فالصباح والشروق والأنفاس وخفقة العطر والمسارات والوجوه وطغيانها ونغمات المذياع: كل هذه التكوينات ذبلت عندما أحست بأنّ موسم الجفاف والقحط بدأ في نذير شؤمه.. لأنّ المجسّات الاستشرافية تشير إلى أنّ الصباح سيكون لزجاً وأشعة الشمس حارقة والأنفاس لم تجد خفقة العطر المعتادة عليها.. بل بدأت تتسلل إليها خفقات عكرة.. والمسارات مكتظة بالمارة اللاهثين إلى سراب يحسبه الظمآن ماءً.. والوجوه غلبت عليها المساحيق التي غيبت صفاءها.. ونغمات المذياع فيها نشاز لأنّ العازف فيها لا له لا في العير ولا النفير.. كونه أُقحم عنوة.

توقف الجسد على قارعة الطريق المشيّد وفق خطط مستقبلية قادمة من حيث استيعابه لكثافة المارين فيه.. إلا أنّ قراءة المستقبل لم تفلح في وضع ما يناسب تلك الطرق لسنوات قادمة لأن الأملاك الخاصة تزاحمه ولا يمكن أن تؤثر على نفسها مصالح عامة.. على أية حال فهي استوعبت ذلك الجسد حتى يستطيع أن يتأمل صباحه اللزج، ويستذكر رائحة العطر القديم  المكون من "المحلب، والشورانه" وصوت أغنية "... مجدنا الأول" وأنت المحبة ..." وكثير من هذا وذاك.. فاختلف مع نفسه في تشبيهها، حتى اتفقا على إنها "حديقة".

وعلى الرغم من تلك الحوادث إلا أن منبع التفاؤل لا زال يفور حباً ويزهر شوقاً ليوم جديد لأن هناك من يستحق العناء.. فالزهر يمدك بالروائح الزكيّة التي تغرس فيك النشاط فأينما حلّت فهي "زكية" وذكية، إذاً هي حديقة غنّاء وارفة الظلال يانعة الثمار، يفوح من جنباتها الود.. وتنثر في مسارها الطيب.. لذلك فوجودها واستمرارها يحتاج إلى رعاية واهتمام وصبر وإتقان.. وهذا ما يقوم به "البُستانيّ" كل صباح.

البُستانيّ الذي حرص على خدمة تلك الحديقة كان شاباً يافعاً ذا قوة وسطوة وعقل وحكمة، فأعطاها كل شيء في وجوده.. ووقّع معها تعهدا بأنّه هبة ربانية لها كي يزداد عطاؤها وتتنوع خيراتها.. فمضى من عمره سنين وهو ينكش تربتها ويقلم أعوادها اليبسة، ويجتث الحشائش السامة من تحت جذورها حتى بلغت أوجها؛ لأنه لم يعتمد على من حوله وإنّما وقف شامخاً في وجه من أراد العبث بذلك الجمال حتى خفافيش الظلام ولّت منكسرة مهزومة.. وهكذا والأيام تمضي والأحوال تتبدل حتى حلت السنوات العجاف..

سنوات العجاف اشتدت عندما زاد "ضباح الثعالب" التي رأت الحديقة يانعة فأرادت أن تسكت جوعها وتوقف سيلان لعابها.. فدارت حول حمى الحديقة تبحث عن مدخل كي تستقر في رحم ذلك الامتداد.. حتى استطاعت أن تدخل من ثغرة صغيرة تركها البُستانيّ حرصا منه في تصريف المياه الزائدة.. فتتابعت واحدة تلو الأخرى، وكلما دخلت واحدة دفعتها جينات الوراثة وصلة القربى أن تأتي بكل شجرة النسب.. حتى اختلط الحابل بالنابل، وأكلت دون أن تراعي حقوق من هم خارج الحديقة الذين ينتظرون غلال الأشجار من قبل البُستانيّ.. فصبروا وصابروا، وبعد أن اشتدت "همهماتهم" من خلف السور.. استشعرت الثعالب أولئك البشر.. فطفقت ترمي لهم بالفتات بين حين وآخر.. معللة بأنّ الثمار أصابتها الحشرات ونالت منها الطيور.. وأتعبها الجفاف، لذا عليكم أن تتقاسموا ما صلح منها حتى يجعل الله لكم فرجاً.. فصفقوا وهللوا.

ومع اشتداد الأيام بجفافها وازدياد الثعالب بعددها أصبحت الحديقة لا تفي بما فيها لهم.. لذا فكروا بضرورة أن تفرض بعض الضرائب على من يسكنون بالقرب من الحديقة كونهم يستمدون الهواء منها، ولكون الحديقة تحتاج إلى رعاية فيجب أن تستثمر هواءها العليل.. فاستخدمت "الثعالب" وسائل شتى حتى تشرعن ضرائبها، فبثت الأخبار، واستمالت ثُلة ممن يقبعون خلف الأسوار فأجزلت لهم العطاء حتى صاروا "أبواقاً" لها.. وبدأ البشر يدفعون الضرائب، مع ارتفاعها يوما بعد يوم.

أمّا "البُستانيّ" فلم يقو على متابعة أمور الحديقة ولم تصله كل أخبارها لأن بطانة الثعالب مستحكمة وقوية ودائما تقول له: كل الأوضاع "سليمة".. وأصبحنا نصدّر هواء الحديقة العليل لما بعد الحدود.. لأن هواءها "نقي".. وروائحها "زكية"، فهو استثمار سيزيد من أموال "الخزينة" لنحقق "الديمومة" الجميلة.

همسة..

الثعالب دخلت الحديقة هزيلة منكسرة.. ثم خرجت منها ببطون منتفخة فشرّعت لها الأبواب، وحملت معها زاد أجيال قادمة.. ولا زالت الحياة مستمرة.. وكل يبحث عن زاده ومراده.. فهناك بطون منتفخة.. وأخرى خاوية.

كاتبٌ وإعلامي

abuzaidi2007@hotmail.com