الملوخية بين الصراع الطبقي والضغينة الذكورية

الناقد/ عبد الجواد خفاجي – مصر


فتح الصديق الشاعر عبد الناصر أبو بكر شهيتي للحديث عن الملوخية في منشور له عن الملوخية. والحقيقة أنني ـ شخصيا ـ أرتبط بالملوخية منذ طفولتي حيث كنت أزرع أرض أبي الذي تركني للفلاحة، واستقر في القاهرة للتعليم والعمل بالأزهر الشريف. وكان اعتنائي بالملوخية والإكثار من زراعتها بلا تفسير غير حبي لها، وكنت أحبذ أكلها مخلوطة مع نبات "الرِّجلة" تارة، وتارة أخرى مخلوطة مع البصارة، وتارة مع اللحوم والمرق.
وقد لاحظت منذ وقت مبكر أن الطبقات الثرية تحاول أن تزيح تهمة حب الملوخية باتجاه الفقراء، ومن ثم اختلقوا المثل "الملوخية لو اندلقت على الأرض، التراب ميشربهاش" ليضعوا الفقراء الذين يأكلون الملوخية بكثرة في مرتبة أدنى من التراب. وفي مثل آخر يقولون: "أكلوا ملوخية وصاروا أفندية" وهو مثل يُضرب لتحقير آكلي الملوخية بوصفهم محدثي نعمة، وقد أصبحوا "أفندية" بعد أن كانوا لا يأكلون غير الملوخية لشدة فقرهم. أما الفقراء فكثيرا ما كانوا يغبطون حظهم إذا توفرت الملوخية مع خبز طري، وكانوا يعتبرون مثل هذا الجمع مؤشراً يقودهم إلى التبذير الذي سيخرب البيت، كما يعبر عن ذلك المثل: "ملوخية وعيش لين، يا خراب بيتك يا مزين".وقد صِيْغَ المثل على لسان "المزين" بوصفه أدني الناس فقراً في المجتمع القديم.
وقد ساهم الفقراء حديثا ـ دون قصد ـ في تحقير الملوخية رغم ذلك، فعندما يريد الواحد منهم توصيل رسالة تهديد لعدو له، يأتي بجواره ويقول بصوت مسموع : "مصيرك يا ملوخية تيجي تحت المخرطة".
ومع ذلك لم تستسلم المخيلة الشعبية الواعية لاعتبارت الأثرياء، وحاولت الصعود مع الملوخية وبها ، ومن ثم أطلقوا عليها مسميات راقية مثل: "الشريفة" و "الملوكية".
ولكن التاريخ الذي لا يرحم أعاد الملوخية إلى مساحة الفقراء مرة أخرى، وألقاها موصومة بعار الأرانب، ومضى إلى غير رجعة. وأضحت مقولة "ملوخية بالأرانب" بحاجة إلى تفسير تاريخي.
فقد عُرفت الملوخية أول ما عُرفت في مصر، حيث أول حضارة زراعية نشأت حول النيل، وانتشر نبات الملوخية عشوائيا حول النيل، وكان المصريون القدماء يتوجسون منه خيفة، لاعتقادهم أنه نبات سام، و كان يسمى "خية " وعندما احتل الهكسوس مصر وهدموا و طمسوا معالم الحضارة الفرعونية أجبروا المصريين على تناولها و كانوا يقولون لهم: "ملو - خية" أي: كلوا خية، و بعدما تناولها المصريين وظنوا أنهم ميتون لا محالة اكتشفوا أنها غير سامة وأنها تصلح للأكل. وتلك إحدى التفسيرات التي تحتفظ بها المخيلة الشعبية، لتفسر الاسم.
ومن أغرب العواصف التاريخية حول الملوخية أن الخليفة الفاطمي السادس الحاكم بأمر الله المنصور عندما علم مصادفة أن "معاوية بن أبي سفيان" كان يحب أكل الملوخية، أصدر مرسوما يمنع أكل أو طبخ أو زراعة الملوخية.
وقد ارتبطت الملوخية طوعا بالطقوس الدينية القبطية عندما يكون الأقباط في صيام عن ذوات الروح فيلجأون إلى أكل الملوخية بطريقة أخرى هي "الشلولو". وسنوضح ما هو "الشلولو".
وارتبطت الملوخية بالأرانب في العهد الفاطمي، فالشيعة ومعهم اليهود في مصر لا يأكلون الأرانب بوصفها حيوانا من فصيلة القطط والثعالب، وتركوا المصريين الأقباط والفقراء عموما لهذا النوع من الحيوانات التي تحيض ليأكلوها وقد رخص ثمنها ، فاعتاد الفقراء أكل الأرانب الرخيصة بالملوخية الرخيصة ، وهكذا اعتاد المصريون أكل الملوخية بالأرانب، كوجبة رخيصة مفيدة لذيذة الطعم.
وهكذا ارتبطت الملوخية ـ تاريخيا ـ بحياة الفقراء المصريين، لوفرتها ورخص ثمنها، ولأنها من المأكولات الدائمة حيث يأكلونها في موسم زراعتها خضراء وفي غير موسمها يأكلونها مجففة.
أما تفسير اسمها خضوعا للغة العربية "ملوكية" ثم تصحيفها إلى "ملوخية" فهو قول خاضع للفلكلور الشعبي حول الملوخية، وقد لعبت مخيلة الفقراء لعبتها في السمو بطعامهم إلى درجة ملوكية تكريما لأنفسهم من خلال الحكايا الخيالية التي تسوغ لهم الاستمرار في أكل الملوخية بغير تزمر، أو شعور بالنقص ، وهي المتاحة لهم. ولا أظن أن الملوخية التي أهملها القاموس العربي يمكن أن تكون محل اهتمام شعبي عربي، وقد انتقلت الملوخية للسان العربي بعد الفتح الإسلامي لمصر، وإن كان العرب عرفوها قبل ذلك عن طريق وفود الحجيج الشاميين، كنبات مجفف للطهي في المرق.
تأتي الملوخية بعد "الفول" في ارتباطها بالمخيل الشعبي واستيلائه على المساحة الأكبر من الأمثال الشعبية والكنايات البلاغية.. مثل: "يعطي الفول للي بلا أسنان" أو "كل فولة ولها كيال"، أما الملوخية فقد أخذت كنايات عدة منها : "الشريفة" ومنها "الملوكية"، وتحظي الملوخية بدخولها إلى مساحة السرد متفوقة على الفول في هذا المنحى. ومن القصص السردية التي توظف الملوخية أن أحدهم جاءه ضيف، فطبخ له ملوخية على مرق الديك، وعند الأكل كان الديك راقدا في طاجن الفخار مغطى بطبق أبيض، ليظل ساخنا، وقد انهمك صاحب البيت وضيفه في أكل الشريفة، وصاحب البيت يوجه ضيفه بين الحين والحين إلى طبق الملوخية قائلا: كل من الشريفة.. إلى أن اغتاظ الضيف وكشف الغطاء عن الطاجن الفخاري متسائلا: متى نأكل عديم الشرف هذا؟.
تتميز الملوخية بأنها استخدمت قديما في تجهيز وجبات سريعة بدون الحاجة إلى النار والمرق واللحوم، مثل وجبة "الشلولو" التي تعتمد على الملوخية اليابسة الناعمة، والليمون، والثوم وملح الطعام، وتؤكل مع البصل، وهي وجبة لازمة للفلاح المصري أثناء النهار وهو يعمل تحت الشمس الحارقة، وتنحصر فائدة الشلولو في وقاية الفلاح من الإصابة بضربة الشمس، وتقوية جهاز المناعة.
ومن كثرة حب المصريين والعرب للملوخية اجتهد ابن سيرين في "تفسير الأحلام" إلى اعتبارها خيرا دائما إذا رأتها المرأة أو الفتاة في المنام، ولم يذكر شيئا عن رؤية الرجل لها. وهذا ما يعتبره البعض ضغينة ذكورية تخصص الملوخية للمرأة، وتعطي الرجل ما قبل الملوخية من ديوك وأرانب.

تعليق عبر الفيس بوك