ميثاق المسؤولية والعطاء..!

حاتم الطائي

تشكَّلت لديَّ قناعةٌ وأنا أطالع، مؤخرًا، هذا الكم من الأخبار والقراءات والتحليلات الرَّاصدة لنقاط التحوُّل الكبير في مفهوم المسؤولية الاجتماعية على المستوى المحلي، وما أكسبته قيمُنا العُمانية الأصيلة من تنُّوع وثراء في برامجه ومُبادراته ومجالاته المستهدفة.. وقناعتي اختصارُهَا: أنَّ الفكرَ التقليديَّ لأصحاب الشركات القائم على أحادية النظر لخانة الأرقام فقط في قوائم وكشوفات دخول شركاتهم، لم يعد مقبولاً اليوم، وأنَّ معطيات الواقع الذي نعيشه لم تعد تفرض -هي الأخرى- مجرد ارتباطات شكليَّة بهذا المفهوم، بقدر ما تتطلَّب سبرًا لأعماقه، وسعيًا نحو الإبداع في تبنيه وترجمته على أرض الواقع.

ولن أدع دفة الحديث تتجه صوب التعميم الملزِم للمجتمع بمختلف قطاعاته ومؤسساته وأفراده بتحمُّل نصيبهم من هذه المسؤولية، وإنما محطَّ النقاش -وبيت القصيد كما يُقال- هو الشركات والمؤسسات العاملة تحت مظلة القطاع الخاص، كجهات لا يزال يؤمَل منها المزيد من الالتزام بمسؤولياتها؛ وأن تُوجِد مساحات أكبر على قوائم اهتماماتها، تتجاوز حدودها المكانية إلى محيطها المجتمعي للتأثير فيه، وهو في حقيقته التزام أخلاقي، واعتراف بجميل المجتمع وردٌّ له، يبتعد بنمطية مبادراتها عن مجرد التبرعات السخية أو البرامج الخيرية، إلى فضاء واسع من المجالات والمبادئ والبرامج، ومسؤوليات تُلتزم، ومُمارسات تُعمم، بأسلوب يخدم التنمية ويعزِّز جهود استدامتها.

ولعلَّ الإشكالَ المتمثَّل في غياب تعريف واضح ومُتَّفق عليه للمسؤولية الاجتماعية في بلادنا، يُضاعف حِدة الجدل حيال الدور الذي تقوم به مؤسسات القطاع الخاص في هذا السياق، كما يُبقِي أبواب النقاش والاستفسار -بل والاستفهام- مشرعة عن الدور التنموي لرجال الأعمال والشركات خلال المرحلة الراهنة، بعيدًا عن فكرة ربط برامج المسؤولية الاجتماعية بالوضع الاقتصادي اليوم، وما حتَّمه من انكماش في السيولة واستمرار سياسات الاحتراز والترشيد.. وهذا الغياب أحدث خلطًا في المعايير بين العمل التطوعي الخيري وما تتقصَّده وتعنيه المسؤولية الاجتماعية للشركات كجزء مهم من مفاهيم التنمية الحديثة، التي تُدمج فيها القضايا الاجتماعية والاقتصادية في صُنع القرار وإعداد الإستراتيجيات.

وهو خلطٌ فرَّغ المسؤولية الاجتماعية للشركات من محتواها، وأبقاها شكلا خاويًا، أسهم في ذلك أيضًا غياب قانون جامع ومنظم للقطاع؛ أو حتى وثيقة أو ميثاق وطني مُلزم أخلاقيًّا، فتحوَّلت تلك المسؤولية إلى ما يُشبه معونات وهبات تُقدَّم دون تنظيم أو تدقيق، وتراجعت إسهامات شركاتنا المحلية في الاضطلاع بأدوارها التنموية؛ وبرزت التساؤلات: أين دور مؤسساتنا الخاصة مثلا من تقديم الدعم لذوي الاحتياجات الخاصة وتأهيلهم ليأخذوا دورهم الفاعل في المجتمع؟ وأين النشاطات التوعوية، والشراكات مع الجامعات، والمدارس، والمستشفيات، ومراكز الشباب، والمراكز الثقافية؟ وأين منصات التفاعل ونشاطات تطوير الأداء؟ وما حجم المساهمات في تمويل المشاريع الاستثمارية في مجال التنمية المستدامة؟ وكم لدينا من مُبادرات لإنشاء وتطوير برامج أو مشاريع إنتاجية أو خدمية؟ ولماذا هذا التراجع في دعم مشاريع التدريب وإعادة تأهيل الخريجين وقوة العمل المتعطلة لتمكينهم من العمل؟ بل وأين مبادرات التوظيف والإحلال والتعمين في مواجهة أكثر من 50 ألف باحث عن عمل؟!!

كُلُّها تساؤلات تتوالد من الواقع، واقع يفرض تغيُّرا في دفَّة التعاطي والبحث عن المعالجات، بتهيئة بيئات نقاش تفاعلية على مستوى عالٍ؛ تجسِّر الفجوات، وتعالج التحدِّيات، وتستشرف الآفاق، وتنظِّم مبادرات وبرامج القطاع؛ من أجل أن تشمل مظلة الاستدامة مجال المسؤولية الاجتماعية كداعم وموجِّه إنمائي.

وهو توجُّه تتماس جُهود "الرُّؤية" مع العديد من نقاطه؛ إذ كان التفكير الجاد قبل ستة أشهر في أن تتبلور ملامح فعالية أو مُبادرة جديدة ضمن نَهجِنا الإعلامي الهادف، تُعنى بالمسؤولية الاجتماعية كهدف ووسيلة في آن واحد، وتُفرِد مساحات واسعة للإلمام بأبعادها؛ حتى اكتملت الفكرة وتكاملتْ محاورها عبر "المنتدى العُماني للشراكة والمسؤولية الاجتماعية"، الذي تنتظم أعمال أولى دوراته صبيحة الأربعاء المقبل، تحت عنوان رئيسي "نحو ميثاق وطني للمسؤولية الاجتماعية"؛ بمشاركة خبراء ومختصين من داخل وخارج السلطنة، تستهدف الجلسة الرئيسية الأولى منه الخروج بتعريفٍ مُحدَّد للمسؤولية الاجتماعية، كلبنة أساس تَضْمَن تنظيم وتحقيق أعلى الإفادات من المبادرات الوطنية للشركات العاملة بالسلطنة، ومن ثمَّ استشراف مستقبل القطاع وآليات دعمه، بما يُمهِّد للخروج ببنودٍ استرشادية لميثاقٍ وطنيٍّ للمسؤولية الاجتماعية يكون المنتدى منصة إطلاقه وتعميمه، بما يكفل لمفهوم المسؤولية الاجتماعية الديناميكية والتطوُّر اللازميْن لمواكبة المستجدَّات. بينما تُمثل ثاني جلسات المنتدى منصَّة تعريفٍ بجهود شركاتنا الوطنية الداعمة لتنمية المجتمع ورفاه أبنائه. على أن يُستكمل النقاش في الجلسة الختامية حول السياسات المنظِّمة لمجال المسؤولية الاجتماعية، وتبيان أبعادها وسياساتها وعوامل الربط بينها تحقيقًا لقِيَم مجتمعيَّة مُضافة، والبحث عن إجابات لتساؤلين بارزين؛ أولهما عن مدى الحاجة لكيانات قانونية تنظم القطاع؟ وثانيهما حول المعايير المشجِّعة للتنافس مستقبلا؟

... إنَّ حاجة مجتمعنا اليوم لدعم هذا الحِرَاك الحاصل في برامج المسؤولية الاجتماعية، ليَضع على العاتق مسؤوليات أكبر لبناء الوعي العام لدى الشركات والأفراد لتقييم الاحتياجات وطَرْح الجديد، وتطوير وسن القوانين التي تسهم في صناعة الفارق، وتحقِّق أعلى قدر ممكن من الاستفادة من جهود أبناء الوطن ومؤسساته المختلفة؛ بما ينعكس إيجابا على أدوار الجميع للقيام بواجباتهم تجاه المجتمع، كضمانات فاعِلة لتحقيق مُعدلات مستدامة على المدى الطويل.