أبعاد استراتيجية (11)

 

الصناعة.. ركيزة تطوّر ومطلب تنويع اقتصاد

د. هلال بن سعيد الشيذاني

في أبعاد استراتيجية 5، في مسار الحديث عن الابتكار؛ وفي أبعاد استراتيجية 9، في معرض مناقشة قطاع المؤسسات الصغيرة والمتوسطة، برز جليًّا دور الصناعة في البعدين الاستراتيجيين لهما. ولأهمية الصناعة، فقد رأيتُ أن أُقدّم بعدها الاستراتيجي الوطني في مقال مستقل.

خلافًا لأي من ركائز الاقتصاد، تتفرد الصناعة بكونها المصدر الأكبر لنمو الاقتصادات حول العالم، ولهذا نجد "مجموعة الدول الصناعية الكبرى السبع" و"مجموعة الدول الثماني العظمى" و"مجموعة الدول الصناعية العشرين" وهي الدول ذات الاقتصادات الأكبر على مستوى العالم، وتربط بينها الصناعة. فلماذا تحمل الصناعة هذا البُعد الاستراتيجي الكبير، وماذا تحقق للتنويع الاقتصادي؟

تأخذ الصناعة عدّة أوجه ولها أبعاد مختلفة. فهناك الصناعات الخفيفة والصناعات المتوسطة والصناعات الثقيلة، وفي ذات الوقت هناك الصناعات الأساسية والصناعات التحويلية، وهناك صناعة الخدمات وصناعة المنتجات وصناعة الفكر، وهناك الصناعات الموجهة داخليا والصناعات الموجهة عالميًا، ولكل من هذه الأنواع سوقها ولكل منها أثرها الاقتصادي.

إن أحد أهم أسس البعد الاستراتيجي للصناعة هو أنها تتحكم في المستهلك وتقود التوجهات الاستهلاكية إلى حيث تجد المجال للاستفادة، فعلى سبيل المثال، يقف ملايين الأشخاص حول العالم في طوابير طويلة في انتظار الإصدار الجديد من هاتف أي فون أو سامسونج. فلو قررت شركة آبل مثلا أن توقف بيع منتجاتها في دولة معينة، فأي إحباط سيصل بالمستهلك في تلك الدولة؟ وليس من المستبعد أن تقوم احتجاجات على الحكومة التي تسببت في قيام شركة كآبل بهذا القرار، وهذا المثال هو مثال شركة، لا دولة، فإلى أي مدىً تتأثر الدول إذا قاطعتها الدول المصدرة للصناعات التي تعتمد عليها؟ ومن زاوية أخرى، في داخل الوطن، هناك مواد استهلاكية رئيسة كالأسماك والخضار التي هي في الأساس منتج وطني، إلا أن ملّاك هذه الصناعات يتحكمون في السوق برفع وخفض الأسعار لأنهم مدركون مفهوم الصناعة واحتياج المستهلك للسلعة.

حين يتجول أحدنا في صناعية المعبيلة أو الوادي الكبير، يجد أمامه عددًا كبيرًا من ورش العمل التي تعتبر مصانع صغيرة تؤدي مهام متعددة، لكن ما لا تجده فيها هو المواطن، إلا أن يكون مستهلكًا، يُصلح سيارته أو يشتري سلعة أو يطلب تصنيع منتج معيّن. وحين نتجول في أسواقنا، من النادر جدًا أن نجد ما هو مختوم بـ"صُنع بفخر في سلطنة عمان"، وحين نسير في شوارعنا نجد مركبات ودراجات ولوحات، لكن ليس منها ما صُنع في عمان. وحين ندخل إلى مدارسنا وجامعاتنا ومنازلنا، لا نجد من أثاثنا ما صُنع في عمان إلا ما أنتجته بضعًا من ورش عمل هنا أو ورش عمل هناك. والحال بطبيعته يزداد وضوحًا حين نسافر إلى أي دولة خارج الوطن.

لكن ماذا لو أننا نصنع الملابس، ونصنع الأحذية، ونصنع النوافذ، ونصنع الأبواب، ونصنع السيارات، ونصنع الأغذية، ونصنع المستلزمات بكل أنواعها، وحين نغادر عُمان إلى أي دولة نجد بصمة الصناعة العمانية واضحة في تلك المجتمعات التي نزور، والمرافق التي نرتاد؟ فكما تنتشر سيارات المرسيدس وبي أم دبليو ولكزس ورينج روفر في كل أنحاء العالم، لتذكر أبناء الدول التي تمتلك مصانعها، أن لهم بصمة في مسيرة العالم اليوم، فإن توجه السلطنة إلى قطاع التصنيع ودعمه كأحد مصادر الدخل القومي والتنويع الاقتصادي، سيجعل كل عماني يسير بفخر خلال تجواله في العالم، لأنه يقدم للعالم، مع كل الاحترام والتقدير، ليس فنّ الرزحة أو عرضًا للأزياء العمانية التي تعكس خصوصيات المجتمع ولا تعود على المجتمع بعائد اقتصادي، إنما يقدم لمجتمعات العالم منتجات وخدمات تسوِّق لـ"عُمان" وتنشر اسم عمان في كل دولة وكل مدينة وربما كل منزل حول العالم. ولأجل أن ندرك أهمية هذا المفهوم، لنتأمل حولنا كم من منتج مكتوب عليه "صُنع في الصين"؟ سنجد أننا في كل زاوية من زوايا منازلنا أو كل ركن من أركان مقار أعمالنا، تبرز كلمة الصين، أو تركيا أو بريطانيا أو ألمانيا أو اليابان. حتى أصبحت أمثالنا وتشبيهاتنا بالنجاح والتقدم والتفوق ترتبط بأسماء دول معينة، ليس إلا لأنها توجهت نحو الصناعة وأوجدت لنفسها مدخلا اقتصاديا ثابتا ونصيبا مفروضًا من أموال العالم، وترقّت في سلّم الدول الاقتصادية حول العالم بناتجها المحلي، الذي تخطى الحدود.

تتعدد أوجه الصناعة، فمنها صناعة الخدمات، ومن أبرز أمثلتها السياحة ومنصات العالم الافتراضي والخدمات الإلكترونية. ومنها صناعة المنتجات بعمومها، وهي صناعات تقوم على الاستفادة من الموارد الطبيعية للدولة أو تحويل موارد مستوردة من دول أخرى إلى منتجات جديدة يتم تصديرها للدول الأخرى ومن بينها التي تم استيراد المواد الخام منها، وغيرها كثير. إن هذا التعدد في أوجه الصناعة له بعد استراتيجي مهم، وهو أنه يجلب للدولة العملات الأجنبية وينقل إليها الموارد المالية من دول أخرى، ولا يتم هذا الانتقال إلا من خلال الصناعة التي يتم تصدير منتجاتها للخارج. إلا أن هذا المسار يجب ألا يُترك للمتسلقين الراغبين في الربح السريع دون ضمان جودة المنتج القادر على المنافسة الدولية فالعالم اليوم يعيش في عالم المقارنات، كما لا يجب أن يُترك للعمالة الوافدة لتستحوذ عليه، وبالتالي تتحكم في السوق الداخلية وربما الخارجية؛ بل على العمانيين أن يتوجهوا نحو الصناعة بكل مستوياتها، لأنها أكبر مصادر الثراء الوطني وأقواها وأدومها.

إن التوجه للصناعة أمر مهم جدا للتنويع الاقتصادي، إلا أنه ومن أجل أن يحقق البعد الاستراتيجي المنوط به، فإن على القطاع أن تكون له استراتيجية واضحة المعالم تعمل تحقيق على عدد من الأهداف من أهمها: (1) توسعة قاعدة الصناعات وخصوصا تلك التي لها أسواق خارجية، (2) وضع القوانين والنظم التي تضع هذا القطاع في الأيدي العمانية وتحارب الصناعة المستترة، (3) وضع معايير الجودة كأساس لتمثيل السلطنة، (4) تقديم الدعم الكافي للشباب العماني ليتوجه من فكر وظيفة الكرسي، إلى وظيفة التصنيع، (5) دعم تسويق المنتجات العمانية في الخارج، وأخيرًا (6) الخروج من بوتقة دعم وتسويق المنتجات التي تملأ الاسواق، لأن دخولها في المنافسة صعب، وبدلا من ذلك تشجيع الصناعات الابتكارية التي تكون فرص حصولها على حصة من السوق العالمية أكبر.

    تويتر: @abualbadr72

تعليق عبر الفيس بوك