رواية "رايات الموتى" (2)

...
...
...

هاني القط – روائي مصريّ

 

نتابع الحلقة الثانية من " روايات الموتى" لـ"هاني القط" جيث يمثل المسار الأول هنا الشاعر الإنجليزي "ويليام" الذي تنبأ بموته عبر قصيدة مؤثرة، في لحظة استشراف شفيفة ومؤلمة في آن، ومعه "جانيت" زوجته الحائرة، فقد استبد بحياتهما الملل، لينحو "ويليام" صوب فسحة من الحياة قد تمثلها "جاسمين بريان" الصحفية الشابة المولعة به من جهة، والغارقة في أنانيتها المفرطة من جهة ثانية. أما المسار المركزي الثاني فيمثله "سعيد"، الذي يصير شيخا جهاديا على يد أحد أمراء تنظيم الجماعة الإسلامية "الشيخ أبو مصعب"، وعينا على الأمير وأتباعه لحساب الأمن في الوقت نفسه. يلحق "سعيد" بآخر موجات الجهاديين في أفغانستان، ويعود ليصبح شريكا في مذبحة الأقصر عام 1997. وكما يقول يسري عبدالله؛ يلتقي مسارا السرد المركزيان حين يأتي "ويليام" للقاهرة لزيارة معالمها، ثم يسافر بالقطار إلى الأقصر، حيث يلتقي بسعيد وجها لوجه، ويصبح ويليام قتيلا، وسعيد قاتلا، وما بين لعبة المجرم والضحية، تتقاطع مساحات الحضور والغياب في النص وتتداخل، ويصبح التلاقي بينهما نقطة التماس الرئيسية بين خطي القص الأساسيين في الرواية".

(القدر!)
"أتراه كان يسمع نبوءتَكَ يا (ويليام) فاستجاب؟!".
قالتها جانيت بذهول، والدموع الدافئة تسيل على خدّيها الورديين؛ منذ ساعة باغتها الخبر على شاشة التلفاز، وهي ممدّة على أريكة شقتها اللندنيّة، لمحت ويليام محمولًا على نقالة، يرفعها أربعة جنودٍ مصريين، أحسّت بعيني ويليام المفتوحتين على الغياب تبعثان لها بلوم، هالتْها بقعُ الدماء التي تلطّخ وجهَه المصفرّ، نهضت تتّصل بوزارة الخارجية لتطمئنّ عليه، حولوها بعد وقتٍ إلى القنصل العام في سفارة القاهرة، والذي أخبرها بما يعلمه من تفاصيل الحادثة، لم تكفّ عن البكاء طوال حديثه معها، وقعت السماعةُ من يدها المرتعشة، وهرولت بقدميها الحافيتين لامسةً البلاطات الشطرنجية الملساء، وأمام الشباك الزجاجيّ المتّسع حدّقت بحزنها في السماء، وغابت شاردةً في غمامة، تفتش عن عابرٍ لا بد أن يمر أمام عينيها. وجه ويليام سميث همس بشيءٍ لها، أطبقت عيونها على وجهه فلم تجده، فزعتْ إلى غرفة النوم، لتحضر القصيدةَ التي أهداها لها، قرأتها بقلبٍ مكلوم، فانهمر الدمعُ من عينيها غزيرًا، وأخذ جسمُها كله يرتعش عندما وصلت إلى:
سأصبح وحيدًا، فور أن يُعلن الخبر
دون شبحٍ يتبعني، فيغرّر بي
دون امرأةٍ تشكو قسوتي معها
دون رفقةٍ يحبسون تأفّفهم من نزقي
البيت الذي أسكنه سوف يفتح بابَه لعابرٍ جديد
أما أنا فسينبت لي جناحان، أطير بهما
صوب المطلق، الأزرق اللانهائي
يقودني فؤادي الهائم
شريكي في الحياة
سأفرح
حين يمرق النورُ على سطح السحابة الشريدة
أقفز ملوِّحًا للأرض
مبتهِجًا
أكتب على سطح السحاب قصيدةً مطمئنةً
قصيدةً لا تشبه القصيدةَ التي في يدك
قصيدةً طالما سافرت إلى بلادٍ بعيدةٍ للبحث عنها
سأدوّن الكلمات بخطّي الركيك
وأسجل توقيعي الثعباني كذكرى
سيفرح الموتى بي
سيصطفّون لقدومي بورودٍ مستحيلة
يتقدّمها البنفسجُ الحزين
أمّا الأحياء
فلن أبكي على فراقهم
لأنني ببساطة مطلقة
سأكون متوَّجًا في العالم الآخر
أنا الآن أعرفه
وقد تطهّرتُ من حزني
وأصبحتُ جسدًا بلا ظل.
حين انتهت جانيت من آخر كلمات القصيدة أحست بعينيها وقد أحرقتهما الدموع، برباطة جأشٍ تُحسد عليها نهضت ماسحةً دمعَها كي تعدّ حقيبتَها استعدادًا للسفر إلى زوجها، الذي لم تكن تدري أنها تحبه كل هذا الحب.
ويليام مسجًّى الآن على فراش مستشفى تبعد عن مكان الحادثة عدة كيلو مترات، على أنفه كمامة الأكسجين، ويضخّ في شرايينه دماء عن طريق إبرةٍ مغروسةٍ في وريده، متّصلةٍ بكيسٍ يحمل فصيلة دمه نفسها (A+)، تعويضًا عن الدماء التي رُسم بها على الحجر الصخري شبحُه المصلوب.
ويليام يقف منذ ساعتين ويزيد ما بين الحياة والموت، ثمة بياضٌ هلاميٌّ يتشكّل أمامَه ببطء، بياضٌ يملأ غيابَه بالسكينة، بياضٌ يشقُّه شخصٌ يُقبل من بعيد ببطء. ترى من هو؟!
لقد أضحى ويليام كائنًا حقيقيًّا، ينسلّ من البياض، تقاطيع الوجه الحزين، شرود العيون الزرقاء، خصلات الشعر الفضي المنسابة على جبهته العريضة؛ إنه يقف أمام نفسه تائهًا ينتظر مصيرَه، ولأن ثمة وقتًا محدّدًا له في ذلك العالم من المستحيل أن يغادر قبل انقضائه، فمن المحتم أن تدفعه روحُه إلى ما يشغله حتى يحين وقته.
هوةٌ شاسعةٌ بين ما يراه وليام الآن وما يكتبه الطبيبُ المساعدُ عن حالته التي تعاني من غيبوبة فَقَدَ في إثرها وعيَه التامَّ بالحياة؛ انزاح البياضُ تمامًا، وبدأت على مسرح الرؤى الباطنيّة فصولٌ معادةٌ من حياته التي خلت، اعتمادًا على ذاكرةٍ مرهفةٍ لأدقّ تفاصيل ما مضى.
ها هو نائمٌ على سريرٍ داخلَ الحجرة رقم ثلاثة وأربعمئة في فندق إيتاب الأقصر في الدّوْر الرابع، فجأةً يشعر برغبةٍ في النهوض من النوم، وعلى الرغم من أنه ليس من عاداته أن ينهض والنهار لم يشرق بعد؛ فإنه يفتح عينه مطيحًا بكسله، وعندما أصبحت قدماه تتلمّسان أرضيةَ الغرفة سأل نفسَه مستغرِبًا:
"ما هو داعي استيقاظك مبكِّرًا هكذا بلا سبب؟!".
بسرعة يُرجِع استيقاظَه إلى الأرق، فيضع قدميه في خفّين من الفرو الأبيض، ويستقبل المرآةَ المقابلةَ لسريره، يحدِّق في وجهه مباغتًا، ليكتشف تلك التغيّرات في ملامحه، والتي فشل مرّاتٍ في رصد تغيّرها:
"آه ويليام لقد تغيّرت كثيرًا!".
بكفه مسح وجهه وفتح شرفة الحجرة المطلّة على النهر، باغتته نسمةُ هواءٍ طريّة، استنشق نسيمها بلذّةٍ وحاول نطقَ اسم المدينة التي وصل إليها بالأمس، وبالكاد نطق كلمة: "أكسور".
الظلمة المترامية يبتلعها خيطُ الشمس الهزيل، الشمسُ تفرد أشعتَها على الدنيا، تمامًا كما يفرد الطائرُ جناحيه على صغاره ليوقظهم؛ اليوم الجديد ولد، يومٌ يشبه كل الأيام لكل الراقدين في خدر نومهم، لكنه بالنسبة لويليام يومه الفاصل المختبئ في ثوب الحداد.
الشمس فردت كامل أشعتها بزهوٍّ، فظهر خضارُ لون الماء، الأشجارُ تصطفّ على الجانبين وتتكرّر في تتابع على طول النهر؛ مركب ذو شراعٍ أبيض قديم، يحمل على سطحه القتلةَ الستة وكثيرًا من العاملين المقبلين إلى الفندق عبر الضفة الأخرى من النيل، بينهم يجلس موظفُ الاستقبال مؤرقًا بالبحث في هزيمته:
"ما اسمه؟".
 لا يهم ذكر الاسم في شيء، المهم أن تلك الدقائق هي مفترق طريق الحياة بالنسبة لذلك الموظف، المضنى بعمى التفريق بين الرقة مع خطيباته والانصياع حد الانسحاق وهو بين أيديهن، ذلك الموظف على وشك اتّخاذ قرارٍ بدلًا من أن يحدّدَ مصيرَ حياته سيحدِّد مصيرَ حياة ويليام - كثيرًا ما يتحكم في مصائرنا أناسٌ غرباء لاعلاقة لهم بنا، من دون أن يدروا - قبل أن يتّخذ هذا الموظف قرارَه ويخطو به أول خطوةٍ لتحقيقه يتفرّس في وجوه الجالسين بريبةٍ، علّه يعلم من عيونهم هل عرفوا الخبر؟!
بالأمس كان موعد هذا الشاب مع ثالث حالة رفض أنثويٍّ له، فخطيبته أرسلت له - عن طريق أحد أقاربها - خاتم خطبتها متعلِّلةً بالكلمة الشرقية المفتوحة على كل معاني الجراح: "لا نصيب"؛ منذ ليلة الأمس وهو يفكر في الكلمة ويحاول الإحاطة بمغزى معناها المؤلم لرجولته، حاول عدة مرات سبر غور الكلمة متعمِّدًا الفشل، لكنه بمرارة أرغم نفسه وأخذ يبحث في ذاته المنكسرة ويسأل لِمَ هو غير مقنع لخطيباته الثلاث:
"هل تنقصه الأناقة؟".
"....".
فملابسه متفقة مع موضة العام، كما يتخلل بدلته عطر Lapidos المستورد:
"إذًا فملامحه غير جذابة؟".
بالأمس حدّق ذلك الموظف في المرآة لوقتٍ طويل، وعندما لم يستطع تدبر أين يقف في درجات سلم الوسامة، وقبل أن يعزو هزيمته إلى ذلك السبب الزائف ويبلع كما كل مرة انكسارَه المُرّ، تذكر فجأة قول مديره اللبناني إنّ سبب تعيينه في خدمة الاستقبال هو لغته المتقنة وحسن مظهره، لذلك نحّى هذا السبب كارهًا، عندها لم يجد الموظف أمامه إلا فضح السر الحقيقي الذي يؤلمه، فالسبب هو طاعته التي تصل إلى حدَّ الانسحاق للأنثى.
حقًّا، فما من مرة واتته الجرأة ورفض أي اقتراح لأيٍّ من خطيباته الثلاث، حتى الإهانة لم يجرؤ على ردّها لهن، لقد كان ذلك الموظف مثالًا رائعًا للكائن الرخو المهزوم دومًا، كائن لم يستطع ولو مرة واحدة التأثير في أيٍّ منهنّ أو إقناعهن بشيء، لذلك قرر أن ينجح اليوم في تغيير شخصيته بأن يكون مؤثِّرًا في الآخرين، وتلك كانت الطعنة التي سيطعنها في ظهر ويليام من دون أن يقصد.
في منتصف النهر تمامًا يمخر المركب الذي تطمسه كل حين أبخرة تثاؤب النهر، بعضٌ من الركاب يلبسون ملابس بيضاء أزهى كثيرًا من شراع المركب المنفوخ بفعل الريح، حتى الأبنية المشيدة في الضفة البعيدة مطلية بالبياض أيضًا، تُرى لِمَ يعشق هؤلاء البياض؟ على الرغم من تضاده مع لون بشرتهم المقاربة لسمرة طمي النيل؟!
ويليام قرأ كثيرًا من الأساطير عن هذا النيل، استعدادًا ليروي لجانيت - التي لم تحضر - أروع القصص عنه، يتخيلها الآن تستند بمرفقها على حاجز سور الشرفة، يقف وراءها يمسك بكفها الدقيقة ويشير لها بإصبعه إلى امتداد النيل، يحكي لها بصوتٍ خافت أنه منذ ألف سنة ويزيد تأخر ماء النهر عن المجيء كما توقيت كل عام، الدنيا حول الوادي على شفا الاقتراب من الفناء، الناس في كل شبرٍ على أرض مصر عطشى، يسألون بأسًى لِمَ النهر غاضبٌ عليهم؟! حتى الملك في قصره يسأل كهنته عن السر، فلا يسمع منهم جوابًا يشفي، وذات مساءٍ قاحلٍ يخبره الكهنة بضرورة إلقاء ابنته الأميرة هبةً لماء النيل كي يفيض، شهر بؤونة ها قد قارب على انتهائه، والوقت يمر، إنه حائر في الأمرين، بين موت شعبه وموت ابنته؛ بدهاء الملوك يغيّر ما اتّفق عليه مع الكهنة في المساء من دون أن يعلمهم، وبدلًا من إحضار ابنته كقربان للنهر يختار بنتًا بكرًا شبيهةً بابنته في كل شيء، يعطي أباها ثقلَ وزنها ذهبًا قبل أخذها، شريطة أن يظل الأمرُ سرًّا، وفي الليل تزيّنها وصيفاتُ القصر بالحلي وبأجمل الثياب، ويغطي الملك وجهَها بقماش دانتيلا، وعند الجسر المقدّس المحصور بين سدّين يلقي الكهنةُ بشبيهة الأميرة في النهر مقيَّدةً، لكن النهر في صباح اليوم التالي والذي يليه لا يفيض، وشهر بؤونة انتهى وجاء شهر أبيب؛ لا يجد الملك من مفر إلا الرضوخ وتزيين ابنته بنفسه كي تكون هبةً للنيل، القرار صعب لكن لا مفر، ها هي ابنتُه تسير معه على الجسر المقدّس، ترتدي أجملَ ثيابها، جاهلةً ما يُعِدّ لها القدرُ من نهايةٍ مؤلمة، وعندما تقف بجوار أبيها على حرف النهر لا تستطيع تصديق أنه يدفعها إلى الماء، أخذت تغطس وترتفع، تستنجد بأبيها أن ينقذها من الغرق، لكنه وبقلبٍ مكلوم يغلق على أحزان قلبه مقابل أن يعيش الناس، بعدها يصير ذلك الطقس عادةً للنيل، فلا يفيض إلا بعد أن تُزَفّ إليه عروسةٌ ملكيّةٌ بِكْرٌ في (بؤونة) أو (أبيب) من كل عام.
يتخيّل دموعَ جانيت تجرى مدرارًا على خدها الوردي، حزنًا على الأميرة الصغيرة، تبصر جانيت الأميرة وهي تغرق فلا تستطيع إلا أن تقاسمها الإحساس بآلامها، يمسح (ويليام) دموعها ويخبرها بتلفيق القصة من قصَصٍ شتّى، ولكي يؤكّد لها ما يقول يخبرها أن الملوك في مصر لا يقدِّمون أولادهم حتى لو مات كل الناس عطشًا، فمادام الظمأ لا ينال الملكَ وحاشيتَه فكيف يحس بشعبه، ولكي تتأكد يحكي لها ما قاله (بول لانجيه) بأنّ المصريين يلقون في بؤونة بسمكة من نوع الأطم، وهو نوع من السمك قريب الشبه بالإنسان، لذا يصفه البعض بإنسان البحر، السمكة لها شعرٌ كثيف فوق ظهرها ولها ما يشبه ردف المرأة، يزينونها بالألوان ويتوِّجون رأسَها بالزهور وعقود الياسمين، ويلقونها في النيل فتسبح السمكة فوق الماء متمايلة كأنها راقصةٌ تهتز، يضمُّ ويليام ظهر جانيت لصدره ويمسح من على خدها ما بقي من دمع، ثم يكمل بجدّيّةٍ حكايةَ الملك الذي ندم على فعلته، وقرر أن يلقي بنفسه في الماء ليموت غريقًا كما ابنته، يصف لها ليلةً مظلمةً بلا أمل، سراجها نورٌ خافتٌ من قمرٍ مقضوم، الملك يترك القصر بعد تنصيبه لأخيه ملكًا على البلاد، وعند ذات المكان يرمي بنفسه، وقبل أن يموت غريقًا يرى ابنته والجارية البِكْر تأخذانه إلى القاع وقد تحولتا إلى سمكتين لهما وجه إنسان. جانيت تتلقى بطُهرها كل الحكايات كحقيقةٍ وتعاود البكاء، جانيت شفافة كماء النيل العذب، وعندما يتخيّل ويليام أنه يرفع لها رأسها كي تبصر عجيبة النيل الخالدة التي ترويها الأساطير تنظر تجاه الجنوب حيث منبع النهر وتتعجب من نهاية النيل الأفعواني، فيشير لها بإصبعه إلى أبعد نقطة، ويخبرها أن ماءه ينبع من السماء، تحدّق جانيت بشدة في نهاية مجرى النيل مرّاتٍ فترى النيلَ يلتقي بالسماء فعلًا، فجأة يختفي خيالُها من جواره، فيصيح ويليام عليها بأسًى وكأنها تسمعه:
"آه جانيت، لِمَ جئت بي إلى هنا وحدي؟".
موظف الاستقبال استلم ورديته فور وصوله، وخلع جاكيت بدلته الأسود وألبسه الكرسيَّ، مكتفيًا بالقميص الأبيض والكرافت البنفسجية، وإذا بمرشد الفوج (أحمد الرفاعي) يسأل مساعده عن سر غياب أحد الأشخاص في الفوج، لذا قام مساعده بِعَدِّ أفراد الفوج، لربما أخطأ المرشد، فعل ذلك بدقّةٍ ليثبت جدارته بالعمل الذي لم يُمْضِ فيه سوى أسبوع، عدّ بتئنٍّ بالغٍ فوجدهم أربعةً وعشرين، فذهب تسبقه بسمتُه إلى موظّف الاستقبال الذي كان ينصت إلى الحديث، ليطمئن على السائح المتغيّب، وفور أن اقترب وسأله عن رقم غرفة المتغيِّب، باغته بسرعة:
"اسمه (ويليام سميث)، وغرفته رقم أربعمئة وثلاثة".
لقد كانت تلك الفرصة الرائعة إيذانًا للموظف الشاب بأن يخطّ مسارًا جديدًا لشخصيته، فبعد اتصال قصيرٍ جدًّا من المساعد اعتذر ويليام لمساعد المرشد بأنه لا يريد الخروج، وبمجرد أن وضع المساعد سماعة الهاتف لم يستطع الموظّف السيطرة على شغفه بأن يعيد الاتصال بالسائح لإقناعه بالنزول، على الرغم ممّا قد يسببه له هذا الاتصال من متاعب تصل إلى درجة العقاب الوظيفي.
كثيرًا ما يرتكب الإنسان حماقةً من دون النظر إلى تبعاتها، هكذا يصنع الموظف الآن وهو يطلب ويليام ليثبت لنفسه قدرته على الإقناع، بالطبع يجهل ويليام محدِّثَه الثاني الذي يدفعه إلى الحتف، ويليام يقطع أحلام يقظته مع جانيت ويقترب من الهاتف، يرفع السماعة مجدّدًا ليسكت صوت الجرس المزعج:
"آلو..".
"صباح الخير مستر ويليام..".
"صباح الخير".
"آسف لإزعاجك فأفراد الفوج ينتظرونك في ردهة الفندق للخروج لزيارة معبد حتشبسوت في وادي الموتى".
"أأأ...".
"سيدي، الجميع ينتظرونك وكل دقيقة تتأخرها هي تفريط في لذة مشهدٍ ساحرٍ أرجو ألا يفوتك".
"أأأ...".
"سيدي، لماذا تبخل على عينيك برؤية مشهد ربما لن يتكرّر مرة أخرى في العمر؟!".
الحق، ما من أحد في الفوج يتذكر (ويليام)، وويليام يشعر بذلك، بل يكاد يوقنه، يريد أن يعتذر عن الخروج، لكن لسانه عاجزٌ عن الرد على ذلك الموظف الملحاح، لذلك يمتثل لقدره:
"دقائق وسألحق بهم".
"أشكرك سيدي، وستعرف بعد الزياة كم كانت ممتعة ولن تتكرر".
يرتدي ويليام ملابسَه بسرعةٍ ويخرج وهو خافق القلب، ينزل إلى ردهة الفندق عبر المصعد الكهربائي، وبنظرةٍ فاحصةٍ لم يجد أيًّا من أفراد الفوج ينتظره في الردهة، وقبل أن يبدي امتعاضه قام موظف الاستقبال بالتنبيه على العامل كي يوجّهَه:
"إنهم ينتظرونك في الحافلة مستر ويليام".
سار ويليام خلف العامل النوبي وقد احتله الصمت، عَبَر إلى خارج الفندق ليجد الحافلة البرتقالية على وشك الانطلاق، باغته شيءٌ من الصفاء والشجن وهو يصعد بابها، حيّا رفاقه فإذا به يطلّ على وجوه يداهمها الموت، وحده الرجل الهرم الذي نهض له مبتسمًا كي يجلسه على مقعده المفضل بجوار الشباك الزجاجيّ كما العادة، فجأةً ترتسم أماراتٌ الأسى على وجه ويليام، فور انطلاق الحافلة، أسًى ليس له علاقة بموته الذي تنبّأ به في قصيدته، ولكن مِن ألَّا يرى جانيت مرةً أخرى ويودّعها وداعًا يليق بها كأحب البشر إليه، كانت سلواه رؤيته لطيف وجهها على زجاج الحافلة، رآه كوجوه ملائكة الجنة التي يكللها النور.

تعليق عبر الفيس بوك