حبنا لهذا الوطن.. كيف نرويه؟

حميد السعيدي

الحُب الأبدي هو الذي يظل يعيش على مدى التاريخ، يُكتب ليبقى خالداً ترويه القصص والروايات، يتبادل فيه العشاق كلمات وأبيات الشعر والهيام، وما بينهما يظل حبراً قابعاً في عمق التاريخ، هو حُب العُمانيين لهذه الأرض الخالدة، التي ولدوا فيها، ونشأوا عليها، وتربوا فيها، إنها أرض هذه الوطن التي أنفاسها كعبير الورد الطاهر يغذي عشاقها بالحُب الأبدي، وتبقى خالدة في أعماق قلوبهم التي تنبض فداء لها، ولا أعتقد بهذا الكون كله شعب يعشق وطنه كهؤلاء الصامدين والمتمسكين بكل شبر من هذه الأرض، إنه العشق العُماني الذي عجز الكثيرون من فك شيفرته الجينية.

ولا يوجد على المعمورة من يعتقد أن قلبه يظل سليما دون نبض عندما يفكر في الرحيل عن الوطن دون عودة، فحتى أولئك الراحلون تبقى قلوبهم تنادي في وسط الليل بحبها لعُمان، ومهما ظل العقل بعيداً عن الوطن متخذاً من قرار الرحيل بحثا عن المادة أو أي سبب آخر، تبقى الروح ملازمة للأرض وتشتاق لجسدها الراحل عنها.. فلا يوجد رحيل بدون عودة.

ومن يرغب في اكتشاف هذا الحُب الذي يتمسك به العُمانيون، عليه أن يأخذ جولة سياحية في هذه الأرض ليكتشف الواقع على حقيقته، فيرى كيف تمسك الكثير من أبناء هذا الوطن بالمكان الذي ولدوا فيه ورفضوا مغادرته، بالرغم من كل المغريات الحضارية الحديثة، فهي لم تستطع بكل ما تملكه من تطور وحداثة وتقنية أن تقنع هؤلاء أن يتركوا مكانهم ويرحلوا إلى أماكن المدنية والتطور، فظل متسمكا بتلك التربة، يرى فيها معشوقته، ويرفض تركها دون أن يرويها مع إشراقة كل صباح بابتسامته؛ لذا تجد الإنسان العُماني متمسكا بالأرض ويرفض المغادرة إلى أماكن تتوافر فيها سبل العيش الحديثة، فيسأل نفسه: لماذا؟ دون أن يدرك أن الحياة بكل مدنيتها المتطورة لم تؤثر عليه ليتركها؛ لذا نجده متواجدا في كل الأماكن فوق أعلى الجبال بعيداً عن كل شيء، شامخاً رافعا رأسه يمجد هذا الوطن، صنع بيته من ترابها، وشرب من مائها، وتغذى على أشجارها، وعاش بين صخورها ووديانها، فكيف نقنعه بتركها؟ وفي عُمق الصحراء نجده يمتطي ناقته عابراً رمالها باحثاً عن خيمته التي غطتها الرياح بالرمال، لكنه يرفض تركها، لا يرى إلا معشوقته التي يتغنَّى بحبها، وينام في أحضانها، ويشم هواء أنفاسها، ليعيش مجدَ الحُب فوق رمالها. وينادي شعراً:

مـاذا يضيرك لو عشقتك مرةً.. وضممت قدك بكرةً وأصيلا

وسدنت في محراب حبك خاشعاً... أدعو الإله مرتلاً ترتيلا

أن يحفظ الود المقدس بيننا.. وبأن تكوني الحُب والتقبيلا

فهل هناك من يستطيع أن يعرف سر هذا الحُب، أم أنه سيبقى إحدى الروايات غير المكتملة تحكيها الأجيال القادمة؟ وربما نصوغ اليوم الكثير من الأسئلة التي نبحث عن إجابة لها، فكيف نروي هذا الحُب؟ أم أنه يبقى قولاً دون آثار نتركها للزمن ويثبت أننا كنا نحُب هذه الأرض.

"وبأن أكون لديك أخلص عاشق"، وحتى تكون هذه الكلمة نابعة من القلب؛ فالإخلاص لا يأتي إلا من هناك؛ حيث نصنع تاريخ عُمان الحديث، في حقل العمل والإنجاز، وهذا الإخلاص يحتاج تلك الروح الوطنية التي لا ترى إلا مصلحة هذا الوطن، هي رايتها وقدوة عملها نحو تحقيق الإنجاز والتقدم، وحمل هذه الرسالة الوطنية من خلال الإخلاص والأمانة من أجل عُمان، والتجرد من المصلحة الشخصية، وتشجيع الكفاءات الوطنية من أجل الاستفادة منها في صناعة الحداثة والتقدم، فلا خوف من الشباب المتقد بالهمة والنشاط؛ فالكراسي لا تدوم لنا حتى نسعى لمحاربتهم خوفاً منهم، وإنما الوطن هو الذي سيبقى؛ فالكل سيرحل يوما ما، ولكن ما يبقى هو ذلك العمل الصالح وتلك الأمانة التي تركت أثرا لما تم إنجازه؛ فالأسماء الخالدة هي التي حققت الإنجازات؛ لذا من يقرأ التاريخ يدرك معنى ذلك.

فتحقيق النجاحات في المؤسسات الحكومية مطلب أساسي يجب أن يكون عنواناً لمكاتب المسؤولين فيها، هؤلاء الذين يجب أن يضعوا نصبهم أعينهم الأمانة التي منحت لهم؛ فجيب أن يكونوا القدوة في العطاء والإخلاص والعمل؛ فالموظف عندما يرى المسؤول قدوة في الأمانة والالتزام بالأنظمة والقوانين، ولا يرعى إلا الله والوطن والسلطان في اتخاذ قراراته دون النظر لمصالحه خاصة؛ فهو يكون مسبارا لتحقيق النجاحات في المؤسسة، والعكس من ذلك، وعلينا أن نحاسب أنفسنا قبل أن يحاسبنا الزمن، ولا أودُّ توضيح العديد من الإشكاليات التي نراها اليوم في مؤسساتنا، ولكن ما أود قوله أن لا شيء يمر دون حساب.

بين هذه وتلك يبقى هذا الحُب هو راية الإنسان العُماني الذي لا يزال يرى أن هناك أملا في المستقبل لاكون عاشقاً حقيقياً لها، "فهل تصبحين حبيبتي وخليلتي؟" وهنا ينادي بحثاً عن حُب جديد لمعشوقته؛ فهو يرى فيها كل الجمال الذي لا يرى في غيرها، وهنا يتمايز الحب بالعطاء؛ فالإنسان الذي يُحب شخصا ما، عليه أن يثبت هذا الحب الحقيقي، بالأفعال وليس بالأقوال؛ فعُمان تحتاج اليوم للإخلاص والعطاء، ويجب أن نكون جزءا حقيقيا من هذا الحُب لا جزءا مزيفاً يخدم مصالح خاصة، وأن نستقى من جلالة السلطان قابوس بن سعيد باني هذه النهضة العظيمة؛ ذلك الجهد الذي بذل من أجل أن تكون عُمان الحديثة. وعلينا، أن ننظر كمسؤولين وموظفين أن إخلاصنا هو مطلب أساسيا، فإن لم تحاسبك العدالة اليوم، ستحاسبك هذه الأرض، وترفض تلك الأجساد التي خانت وطنها لأجل مصالحها.

Hm.alsaidi2@gmail.com