لم يعد الصمت من ذهب؟

د. عبدالله باحجاج

في الوقت الذي بدأت فيه قضية البحث عن عمل تتصاعد في بلادنا عبر الفضاءات الإلكترونية، وتتفاعل معها، بعض الأقلام خاصة في جريدة "الرؤية"، نتفاجأ بتسريب بيانات لبطاقة عامل أجنبي في إحدى شركات النفط الحكومية، تضعنا أمام إحدى المعضلات الحقيقية التي تعقد عملية البحث عن عمل أمام شبابنا الخريجين، وتسارع في تحويلها إلى أزمة (...) إذا ما ظل الصمت الحكومي هو السائد حتى الآن.

البيانات صادمة؛ فهذا الأجنبي قد تم توظيفه في إحدى شركات النفط العمانية، بوظيفة مدير متابعة، وبراتب أساسي 5 آلاف ريال عماني، وفي العام 2011 -وما أدراك ما 2011!- عام الذروة، فكيف تجرأت هذه الشركة على توظيفه في هذه الفترة الزمنية؟ وهل بحثنا في بلادنا ولم نجد كفاءة لهذه المهنة إلا من الخارج؟ وإذا كان حجم الراتب الأساسي ذلك المبلغ المرتفع جدا، فكم سيصبح بعد العلاوات؟ وما أكثرها، وما تنوعها في الشركات النفطية الحكومية؟ وحجم راتب هذا الموظف الأجنبي يعود بنا إلى ما قاله مدير هندسة الآبار واللوجستيات بشركة تنمية نفط عمان، في حديث له مع إحدى الصحف المحلية في 11 يونيو عام 2012، عندما اعتبر أن السلطنة الأعلى خليجيا في أجور العاملين بقطاع النفط، وهى الأفضل بنسب تتراوح بين (20%-60%) وفق دراسة استند إليها هذا المسؤول في حديثة الصحفي الصريح جدا. وهذا يعني أن الأوضاع في هذه الشركات ينبغي أن تفرض عليها الرقابة والإدارة المركزية، كما أن سياسة الأجور والامتيازات الخاصة بكل منظومة العمل في الشركات الحكومية ينبغي مراجعتها فورا، لكي تتناغم مع توجهات الدولة في تنويع مصادر دخلها، وفي توفير فرص عمل للباحثين، وهذه القضية تذكرنا بقضية مماثلة تناولناها مؤخرا عن عملية توظيف مماثلة لشخصيتين من الخارج في وظائف يمكن شغلها من قبل أبنائنا، وما خفي أعظم، وما يظهر فوق السطح ليس سوى نتيجة تفاعلات ما تحت السطح.

وهنا، يتحتم علينا طرح التساؤل التالي: كيف لا ينبغي أن تتحول قضية الباحثين عن عمل إلى أزمة، وكل شيء في هذه المرحلة ينتجها، ويدفع بها دفعا؟ هل الصمت والسلبية في التعاطي معها، سيحلها أو سيحول دون اندلاعها؟ تساؤلات ينبغي أن تُطرح لعلنا نكسر حاجز الصمت الحكومي في ظل كل المؤشرات التي تشير إلى أنها ستتحول قريبا إلى ازمة حقيقية، ولماذا الصمت؟!

عندما بحثنا في محرك "جوجل"، وجدنا الكثير من الحكم التي تمدح الصمت، وتذم الكلام، وكذلك الكثير من الأمثال التي تؤيد الصامتين الساكتين، مثل "إذا كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب"، وكذلك "الصمت حكمة.. والكلام نقمة"، حتى الشعراء قد أدلوا بدلوهم في تقديس الصمت؛ حيث قال أحدهم "احفظ لسانك أيها الإنسانُ.. لا يلدغنك إنه شيطانُ"، وتتخذ الجهات الحكومية من تلكم الحكم والأمثال والأشعار، فلسفة لعملها العام، حتى داخل ميكانزماتها وآلياتها الداخلية، وليس فقط في علاقاتها مع المواطنين، الصمت هو موقفها الثابت المقدس، وهى ماضية في سيرها الآلي اليومي التقليدي في إدارة دفة المؤسسات، معطلة فكرها عن التفكير، رغم أن ما يدور حولها، يحتم الخروج عن الصمت، لإدارة أزمات مقبلة، ورغم ذلك، فهى صامتة، لا يعنيها شيء من قريب ولا من بعيد.

من هنا، نقول إن الصمت لم يعد من ذهب، وليس وراءه حكمة، إنما العكس، يعبر عن سوء إدارة، وعن انتهاج خيار ردة الفعل عند اندلاع الأزمات، مثلما حدث عام 2011، وحتى لا نغرق في الكلام النظري المجرد، سنأخذ قضية الباحثين عن عمل أنموذجا؛ فكيف تنظر الحكومة الآن لهذه القضية؟ هل ترى أنها قد تحولت إلى أزمة أم لا؟ ومتى تتوقع اندلاعها؟ وهل خيار الصمت فيها من ذهب أو وراءه حكمة؟!

المطلعون على مراحل نظام إدارة الأزمات سيلاحظون أن أولى مراحل أزمة الباحثين قد وقعت؛ فهناك 5 مراحل لإدارة الازمات؛ أولها: اكتشاف إشارات الإنذار بوقوع أزمة، وفي قضية الباحثين، فالإشارات الإنذارية قد وقعت منذ فترة من الزمن، وتم تأكيدها مؤخرا بنشر عدد الباحثين البالغين 50388 باحثا وباحثة ناشطين، أي ليس الفعليين. ومفردة الناشطين -كما أوضحناها في مقال سابق- يشير إلى الباحثين الذين نشطوا أو جددوا ملفاتهم في وزارة القوى العاملة خلال فترة زمنية محددة، وهذا يعني أن هناك الكثير من حملة الدبلوم العام (الثانوية) ومن دونهم، وآخرين جامعيين لم ينشطوا ملفاتهم لأسباب عديدة؛ من بينها: حالة اليأس في العمل، واعتقادهم بأن الظرفية المالية للبلاد لن تسمح بالتوظيف المعطل منذ أكثر من ثلاث سنوات، ما عدا اليسير في القطاع الخاص، كما أن هناك إنذارا آخر يعزز الإشارات، وهى تصعيد قضية الباحثين عن عمل عبر مواقع التواصل الاجتماعي تحت مسمى "عمانيون.. بلا وظايف"، ألا يكفي بمثل هذه الإشارات سببا للخروج عن الصمت؟!

إذن، هل تنتظر الحكومة حتى وقوع الأزمة أم عليها العمل فورا على إدارتها قبل أن تقع؟ وقبل أن نقدم رؤيتنا لهذه الإدارة -وقد يكون في المقال المقبل- نرى من الأهمية استدعاء المرحلة الخامسة الأخيرة في نظام إدارة الأزمات، وهى التعلم، وهى مرحلة وضع الضوابط لمنع تكرار الأزمة، وبناء الخبرات من الدروس السابقة لضمان مستوى عال من الجاهزية في المستقبل.

وهنا نتساءل: هل استفدنا من دروس عام 2011؟ وهل هناك جهة متخصصة توثق خبراتنا فيها حتى يمكننا الاستفادة منها في مستقبل الازمات المماثلة أو الحيلولة دون اندلاع على شاكلتها؟  معظم الفاعلين في أحداث عام 2011 هم من الباحثين عن عمل، أي الدافعية وراءها كانت الحق في العمل، والسيناريو بدا لنا أنه سيكون نسخة مكررة لدافعية عام 2011، فكيف لم نستفد من خبراتنا في هذه الأحداث للحيلولة دون تجدد إشاراتها الآن؟ هل هنا الصمت من ذهب، ووراءه حكمة؟!

لن نحمِّل الظرفية المالية السبب، وإنما نحمل إدارتنا لمرحلة إعادة الهيكلة المالية للدولة، والتي تجد في الأزمة النفطية فرصة سانحة ومواتية لتطبيق سياساتها المالية والضريبية الجديدة، فهناك جنوح مبالغ فيه في إعادة هذه الهيكلة، كما أن هناك ازدواجية متناقضة بين التوجهات وسياسات تطبيقها، وتلك سنخصص لها مقالا مستقلا حتى نستكمل معطياته في ضوء متابعتنا الإقليمية لإشكالية بدأت تشكل واقعة قد تحطم الأمل عند الكثير من مخرجات التعليم الجامعي، وبالذات عند فئة المهندسين. ونقول إن الجنوح في إعادة الهيكلية المالية وفق الحسابات الرقمية المجردة، نظرة أحادية مفرطة الاهتمام، وفي الوقت ذاته تفرط في جوانب أساسية كثيرة، مما يجعل من سلم الألويات الوطنية يهتز ويختل، مثلما يحدث حاليا في عدد من الملفات الوطنية  كالتوظيف والعمل، فهناك جنوح في تأسيس هيكلية مالية من موارد غير النفط والغاز، وكلها أو جلها من جيوب المواطنين، ومستقبل أبنائهم، فكيف سنستوعب مخرجات التعليم الجامعي سنويا إذا أوقفنا دور اقتصادنا على إنتاج الوظائف؛ فالتوظيف في القطاع الحكومي ممنوع بالمطلق -جنوح المنع- والعمل في الشركات الحكومية تفرض عليه وزارة المالية قيودا رغم حاجة النمو فيها للتوظيف -نسخة أخرى من جنوح المنع. كما أن القطاع الخاص -كما كشف حاتم الشنفرى- يفرغ بلادنا من أموالها للخارج، وهنا جنوح مماثل من نوع آخر، فكيف سيسمح ما تبقى له من أموال من توفير فرص عمل حقيقية وآمنة؟!

كل القطاعات الثلاثة التي يفترض أنها منتجة للتوظيف وفرص العمل تعمل بالجنوح المفرط، فهل ستتحمل مرحلتنا الوطنية المقبلة التفريط في شبابها؟ لابد من تخفيف حدية هذا الجنوح بثلاثيته سالفة الذكر. فلو أخذنا مثلا قطاع الغاز في بلادنا، فلابد أن تنفتح عوائده على قضية التوظيف بعدما تم تدشين عهد جديد فيه بعد حقل خزان الضخم التي تقول بعض المصادر إنه سيضيف ما نسبته 40% لموارد الدولة، وإذا لم يُوظَّف جزء منها لصالح التوظيف والعمل، فأين ستذهب موارده؟ وسيكون موضوع مقال لنا مقبل.

إذن؛ من يدير ملف التوظيف وتوفير فرص العمل في بلادنا؟ لن نجد جهة حكومية واحدة معنية بهذا الملف، ولن نجد الحماس عند كل جهة بهذا الملف، رغم أننا قد تجاوزنا مرحلة إشارات الإنذار بوقوع أزمة، ودخلنا مرحلة التحذيرات عالية الصوت. ومع كل ذلك، لا تزال الحكومة تراهن على حكمة الصمت، وسلبية الفعل، ولن تكون قضية الباحثين عن عمل الوحيدة من نوعها، بل إن بلادنا على غرار الدول الإقليمية الأخرى، قد دشنت عصر الأزمات، مجموعة أزمات متوقعة، داخلية وخارجية، تتفاوت بين الدول؛ فماذا ينبغي على بلادنا أن تنتهجه فورا بعد تخليها عن حكمة الصمت؟ هذا موضوع مقالنا المقبل بمشيئة الله تعالى.