سؤال في التفسير: وقفة لغوية وبلاغية مع آية قرآنية (6)

 

أ.د/ سعيد جاسم الزبيديّ

جامعة نزوى – سلطنة عُمان

..........................................

في الحلقة الخامسة نواصل الحديث عن التفاسير والقراءات الواردة في قوله تعالى :﴿قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيْمِ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيْرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ﴾. محاولين الإجابة على سؤال السائل: ما السر وراء قوله تعالى :(لله) جوابا على (مَنْ)؟ أي وقوع (مَنْ) الاستفهامية بعد (القول), وجوابها, بالنظر إلى ورود هذا النموذج في القرآن الكريم جريا على المنهج في الاستقراء, وضم النظير إلى النظير. وفي هذه الحلقة نستكمل ما بدأناه:

فقد قال محمد علي الشوكاني (ت1250هـ):"جاء سبحانه باللام نظر إلى معنى السؤال، فإنَّ قولك: من ربّه، ولمن هو في معنى واحد، كقولك من رب هذه الدار؟ فيقال: زيد، ويقال: لزيد"، وقد مرّ مثل هذا الكلام كثيراً. وقال محمود الآلوسي (ت1273هـ):"... القراءة بغير لام على الظاهر وباللام على المعنى..." وكرر الآلوسي هذا الكلام وذكر الأمثلة السابقة والشاهدين الشعريين، ولا جديد!. وقال محمد يوسف اطفيش (ت1332هـ):"جواب بالمعنى كقول الشاعر: (إذا قيل: مَنْ ربّ المزالف والقرى...وربّ الجياد الجرد قلت: لخالدِ)؛ إذ لم يقل: قيل: خالد، أي هو خالد، والجواب على اللفظ ربهنّ الله، أو هو الله".

وقال أيضا:"وهذا الجواب نُظِرَ فيه للمعنى كأنه قيل (لمن ملك السموات والعرش) فكان الجواب أن يقولوا لله، وقرأ أبو عمرو ويعقوب (لله) بإسقاط لام الجر وبالرفع نُظِرَ للفظ السؤال أي رب السموات والعرش لله"، وفي الكتابين لم يضف الشيخ محمد بن يوسف جديداً!.

وقال محمد الطاهر بن عاشور (ت1393هـ/1973م):"وقرأ الجمهور (سيقولون لله) بلام جارة لاسم الجلالة على أنه حكاية لجوابهم المتوقع بمعناه لا بلفظه، لأنهم لما سئلوا بـــــ (مَنْ) التي هي للاستفهام عن تعيين ذات المستفهم عنه كان مقتضى الاستعمال أن يكون الجواب بذكر اسم ذات المسئوول عنه، فكان العدول عن ذلك إلى الجواب عن كون السماوات السبع والعرش مملوكة لله عدولاً إلى جانب المعنى دون اللفظ... ونظير هذا الاستعمال ما أنشده القرطبي: إذا قيل من رب المزالف والقرى ..." مع أن الرجل أحس بالعدول عن الأصل لكنه عاد إلى تعليله بالمعنى ولا جديد، وقال إبراهيم بيوض (ت1401هـ):"اعترفتم بأن الأرض ومن فيها ملك لله فأخبروني من هو رب هذه السموات السبع التي فوقكم والتي تعج بما لا يعد من المخلوقات والتي لا تعد الأرض بالنسبة إليها إلا كنسبة حبة من رمل إلى أعظم جبال الدنيا".

فالشيخ هنا يلتفت إلى المعاني التي تنطوي عليها هذه المخلوقات ولم يكن يلتفت إلى التركيب الذي ورد فيه السؤال والجواب فانتزع تفسيره مما توحي به هذه الآيات من معان، وقال عبد الكريم الخطيب (معاصر): "من هذا؟ ولمن هذا؟ جواب واحد.. هو(الله رب العالمين)،  .. وهو( لله رب العالمين)" عودة إلى المعنى الواحد!، وقال وهبة الزحيلي (معاصر):"قل: من رب السموات ...جوابه قراءة من قرأ (سيقولون الله ), وأما قراءة (سيقولون لله ) فليس بجواب قوله تعالى (قل من رب السموات ) وإنما هو جوابه من جهة المعنى ,لأن معنى قوله (من رب السموات ) لمن السموات؟ فقيل في جوابه: (لله) ونظيره ما بعده وهو قوله تعالى: (قل من بيده ملكوت كل شيء) فقال لله حملا على المعنى ,وهذا كثير في الكلام العرب"، وقال في موضع آخر : "ولا فرق في المعنى لأن قولك من ربه ؟ ولمن هو ؟ في المعنى واحد".

وقال محمد جواد مغنية (معاصر) :"ولا فرق بين أن يقولوا :الله رب السموات,وبين أن يقولوا :السموات ملك لله, لأن اللام ههنا للملك, ورب الشيء مالكه وصاحبه ". ولا جديد!

وقال محيي الدين درويش (معاصر) :"(سيقولون لله),لله جار ومجرور متعلقان بمحذوف لمبتدأ محذوف وفيه نظر إلى أن المعنى من له ما ذُكِرَ والتقدير في الأولى:قل من له السموات السبع؟ وفي الثاني قل من له ملكوت كل شيء، فلام الجر مقدرة في السؤال فظهرت في الجواب نظرا للمعنى, وقد قرىء بإسقاطها مع رفع الجلالة جوابا على اللفظ, لقوله مَنْ لأن المسؤول به مرفوع المحل وهو مَنْ فجاء جوابه مرفوعاً ". لا جديد!.، وقال عبد الكريم محمود يوسف (معاصر):"الآية 86 ... مَنْ:اسم استفهام في محل رفع مبتدأ لنفي الربوبية لغير الله ...الآية 88...مَنْ: اسم استفهام في محل رفع مبتدأ لنفي من بيده الملكوت عن غير الله" .لا جديد!

وخلاصة القول: نخرج مما تقدم أن القدامى والمعاصرين الذين تناولوا هذه الآيات أجمعوا على أن جواب الآيتين :(قل من رب السموات...) (وقل من بيده ملكوت...) بـ(لله) محمول على المعنى, ولهذا القول وجاهته إلا أنني لم أجد فيه مقنعا. وإن هذا الخروج, أو العدول, أو الانحراف بهذا التشكيل يلفت انتباه المتلقي, ويكسر المألوف في ما شاع من طبيعة أسلوب الاستفهام, وإنه يمثل فنا بلاغيا يرقى إلى دلالة منتزعة لا يحققها التعبير بمطابقة مقتضى الظاهر لفظا ومعنى, فهذا "العدول عن صيغة من الألفاظ إلى صيغة أخرى لا يكون إلا لنوع خصوصية اقتضت ذلك وهو لا يتوخاه في كلامه إلا العارف برموز الفصاحة والبلاغة الذي اطلع على أسرارها وفتش عن دفائنها, ولا تجد ذلك في كل كلام فإنه أشكل ضروب علم البيان, وأدقها فهما, وأغمضها طريقا". وهذه المقولة دقيقة تفتح لنا الباب لما حاك في صدري وأنا أتأمل أسلوب الآيتين لأقرر أن أسلوبهما "التفاتا " أو "عدولا" أو "خروجاً"على مقتضى الظاهر " أو "انحرافاً" على ما هو متداول من مصطلح مناسب قديما وحديثا, ليستدرج الله (المخاطبين إلى الاعتراف بمالكيته لإقرار ربوبيته ووحدانيته.

 

...................................

المراجع:

  1. محمد بن علي الشوكاني: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية في علم التفسير، اعتنى به وراجع أصوله يوسف الغوش، دار المعرفة، بيروت، ط1، 1995م، 3/619.
  2. الألوسي: روح المعاني، 9/257.
  3. محمد بن يوسف اطفيش: تيسير التفسير، نشر وزارة التراث القومي والثقافة، سلطنة عمان، 1987م، 9/48-49.
  4. محمد يوسف اطفيش: هيميان الزاد، 11/157.
  5. محمد الطاهر بن عاشور: التحرير والتنوير، دار سحنون للنشر والتوزيع، تونس، 1997م، 9/110.
  6. إبراهيم بيوض: في رحاب القرآن، تفسير سورة (المؤمنون)، تحرير عيسى بن محمد الشيخ بالحاج، نشر جمعية التراث، القرارة، الغرداية، الجزائر، 1998م، 5/244.
  7. عبدالكريم الخطيب: التفسير القرآني للقرآن، 5/1165.
  8. وهبة الزحيلي: التفسير المنير في العقيدة والشريعة والمنهج، دار الفكر، دمشق، ط1، 1991م، 18/85.
  9. السابق: 18/88.
  10. محمد جواد مغنية: التفسير الكاشف،دار العلم للملايين، بيروت، ط4، 1990م، 5/384.
  11. محيي الدين درويش: إعراب القرآن الكريم وبيانه، 5/223.
  12. عبد الكريم محمود يوسف: أسلوب الاستفهام في القرآن الكريم، غرضه، وإعرابه، مطبعة الشام، دمشق، ط1، 2000م. ص92-93.
  13. ضياء الدين بن الأثير: المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر، تحقيق أحمد الحوفي وبدوي طبانة، طبعة نهضة مصر، القاهرة، د.ت، 2/167.
  14. ضياء الدين بن الأثير: المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر، تحقيق أحمد الحوفي وبدوي طبانة، طبعة نهضة مصر، القاهرة، د.ت، 2/167.
  15. وللالتفات مصطلحات أخرى لم تشع مثل: (الصرف) وهو مصطلح صاحب البرهان في وجوه البيان، ص152. و(الانصراف) مصطلح أسامة بن منقذ في: البديع في نقد الشعر، ص200. و(الاعتراض) و(الاستدراك). ينظر في ذلك: أحمد مطلوب: أساليب بلاغية، وكالة المطبوعات، الكويت، ط1، 1980م، ص274.

تعليق عبر الفيس بوك