الشاعر والباحث فتحي عبد السميع لـ" الرؤية: النخبة الثقافية مصطلح مُضلِل، ويضم الكثير من الزائفين، والحواة، والبهلوانات

 

حاوره: ناصر أبو عون

  1. الشعر في تقديري طاقة أساسية في بنية العالم، والفنون جميعا.
  2. تمتلئ حياتنا الثقافية بمن يلعبون بالنقد، كما تمتلئ بالمتجمدين ذهنيا.
  3. المثقف لابد أن يكون حرا ونزيها وصاحب رسالة، يحركه الواجب الإنسانيّ.
  4. في النص الشعري الحديث لم يعد موضوع الإبهام والغموض مطروحا.
  5. التسلح بالمنهج العلمي من ضرورات العمل النقدي، لكنه لا يصنع ناقدا.

فتحي عبد السميع جائزة الدولة التشجيعية في العلوم الاجتماعية يكتب زاوية أسبوعية بجريدة القاهرة بعنوان (رفرفة الحجر) وهو منسق مهرجان الجنوب للشعر العربي وعضو مجلس إدارة مركز الثقافة اللامادية بجامعة جنوب الوادي وجائزة أفضل بحث في مؤتمرات هيئة قصور الثقافة  2015 ترجمت بعض نصوصه للإنجليزية ،واللألمانية ضمن مختارات للشعر العربي، وصدر له (الخيط في يدي 19)، و(تقطيبة المحارب 1999)، و(خازنة الماء ـ2002)، و(فراشة في الدخان ـ2002)، و(تمثال رملي ـ الهيئـ 2012)، و(الموتى يقفزون من النافذة ـ2013)، و(الجميلة والمقدس ـ نقد ـ 2014)، و(القربان البديلـ 2015)، و(الشاعر والطفل والحجر ــ 2016)، و(أحد عشر ظلا لحجر ــ 2016)، كما شارك عبد السميع بأبحاثه المنشورة  في عدد من المؤتمرات ونذكر منها:  (المكان و تجليات الموروث الشعبي في شعر العامية 2002)، و(الوعي الشفاهى والوعي الكتابي 2003)، و(المروى له  فى الخطاب الروائي  2005)، و(أزمة الهوية العربية 2006)، و(تقنيات السرد وأفق الدلالة 2007)، و(سينوغرافيا النص السردي 2007)، و(الهوية المعلَّقة 2008)، و(ثقافة الثأر وشعرية الهامة 2009)، و (الشعر والأسطورة 2010)، و(مفهوم الثورة الثقافية 2011)، و(ثقافة القبيلة ومستقبل الديموقراطية 2013)، و(السرد والأسطورة2013)، و(القرآن الكريم والشعر الحديث 2014)، و(فلسطين وشعرية النعرة 2015)، و(الجغرافيا والتصوف والثقافة القبلية 2015)، و(الثقافة المتحركة والتقاليد في صعيد مصر2015)

وللشاعر فتحي عبد السميع مجموعة شعرية تحت الطبع بعنوان (ولد على ظهر عقرب) تصدر  قريبًا عن أصوات أدبية بالهيئة العامة لقصور الثقافة)، و(ميزان الدم : طقوس القتل الثأري في صعيد مصر) ، و(شعرية الهامة )، و(الفكر المسحور)، والعادة والطقس والأسطورة)، و(الثأر والجغرافيا).

الجدير بالذكر أن الشاعر فتحي عبد السميع  قد كان اسمه ضمن القائمة القصيرة لجائزة الشيخ زايد 2016م. وتولى منصب الأمين العام لمؤتمر أدباء مصر  دورة  المشهد الشعري ـ الإسكندرية عام 2009م، وكذلك ترأس الأمانة العامة لمؤتمر إقليم وسط وجنوب الصعيد 2011م. وحصل في بداية التسعينات على عدد من الجوائز مثل المركز الأول في مجال شعر الفصحى في المسابقة المركزية لهيئة قصور الثقافة، وجائزة صندوق التنمية، وجائزة القوات المسلحة عن قصيدته صلاة العابر، كما حصل مؤخرا على عدد من الجوائز ومنها جائزة أفضل بحث في مؤتمرات هيئة قصور الثقافة  2015م. كما شارك في عدد كبير من المهرجانات الشعرية في مصر والعالم العربي... وقد التقيناه ودار بيننا الحوار التالي....

  1. تحرّر العديد من النصوص الإبداعية الحديثة من ترسّم خطى التصنيفات القديمة المحفوظة، معتمدة على فكرة “اللعب الحر” بتسلق الأسوار وهدم الجُدر الفاصلة بين الشعر والقصة والرواية والمقالة والخاطرة، التي كانت تحفظ المسافة بينها بشروط واضحة تحيل كل “نص” إلى جنسه الإبداعي دون مشقة .. هل تعتقد أن هذا التزاوج  أتاح  قدرة لك على التعبير دون مثاقيل الشروط والمحدّدات، إلا إنه في المقابل أفقد النص “نقاءه” ؟

(***) انفتاح تجربتي الشعرية على فنون القول الأخرى منحني قدرة للوصول بالشعر إلى مناطق  جديدة لم يكن بمقدوري الوصول إليها دون ذلك التزاوج الفني الحميد، ومن الخطأ اعتبار ذلك الانفتاح سببا في فقد النص الشعري لنقائه، وذلك لأسباب كثيرة، منها ارتباط النقاء الحقيقي بقدرة النص على توليد الدهشة واحتوائه على لمسة إبداعية واضحة. ومنها وجود ذلك الانفتاح في نصوص شعرية قديمة لا نطعن في نقائها، لأننا نعتمد في مقياسنا لدرجة النقاء على المظاهر خارجية لا على الجوهر، نحن للأسف نفقد شجاعة الآباء بينما ندَّعي حماية تراثهم، ونفضل تكرار الخطوات نفسها التي قاموا بها متجاهلين الفوارق الكبيرة بين حياتهم وحياتنا، الأمر الذي يؤدي إلى قتل خطواتنا نحن، أي قطع مسيرة الأسلاف.... وبشكل شخصيّ كان الشعر الشعبيّ مرشدي لذلك الاتجاه، فقد زاوج الفنان الشعبيّ بين الشعر والسيرة الهلالية فجاءت في هيئة مربعات شعرية محكمة البناء، وحدث الشيء نفسه في صياغة الحكايات الشعبية في شكل المواويل، أي أن التزاوج بين الشعر والحكاية قديم جدا، وكل ما فعلته هو استثماره في إطار كتابة شعرية حديثة تحلم بالوصول إلى مناطق جديدة... وفكرة النقاء النوعي نفسها تتسلل إلينا من ثقافة قديمة تجاوزها الزمن، حيث يرجع أصلها لفكرة النقاء العرقيّ التي كانت محورية في الثقافة التقليدية بشكل عام، ونحن الآن ندرك مدى بؤس فكرة النقاء الجنسيّ، فقد سقطت فكرة العرق النقيّ علميا وواقعيا، وتكشفت خطورتها التدميرية، كما تكشفت بشكل غير مسبوق فكرة البوتقة الخلاقة التي تصهر هويات مختلفة في سبيكة تمنح قوة كبيرة لجميع عناصرها... وكلنا لآدم كبشر، وكلنا كمبدعين أبناء للحلم وللأسطورة، والنقاء الشعري الحقيقي في تقديري لا يعتمد على مظاهر خارجية كالوزن والقافية، أو صنع التركيبات اللغوية غير المعتادة، بل يعتمد على درجة اقترابنا من هيئة الحلم أو الأسطورة بغض النظر عن الطريقة التي حققنا بها ذلك الهدف.

 

  1. الشعر قد تفصّد وتبعثر في كلّ الفنون، فنجده في السرد، ونجده في السينما، ونجده في الفوتوغرافيا، كما نجده في المسرح؛ بمعنى أنّه حتى وإن كان يوجد نصّ شعريّ محض إلا أن الشعريّة موجودة في كلّ الفنون والألوان بنسب وقد لاحظنا في (منتوجك الشعريّ) بشكل عام دفقات شعرية في ثنايا السرد فأيهما يطغى على الآخر عند لحظة الكتابة؟

(***) الشعر في تقديري طاقة أساسية في بنية العالم، والفنون جميعا تسعى لاصطياد تلك الطاقة وحفظها في أشكال مختلفة، تتناسب مع التنوع البشري الكبير من حيث القدرة على استيعاب تلك الطاقة الشعرية، فتلك القدرة لا تختلف باختلاف العصور أو الثقافات أو الأحوال الاجتماعية والاقتصادية المختلفة فقط، بل باختلاف حالات الفرد الواحد، ويتميز الشعر باستهداف تلك الطاقة بدرجة عالية من التركيز والتكثيف، وبالنسبة لي لا أذهب للحكاية من أجل الحكاية بل من أجل اصطياد الشعر، وتلك الحركة لا تنفصل عن نزوع تجريبي يحلم بالوصول إلى أماكن غير مستهلكة شعريا. 

 

  1. إن ترجمة الشعر محال أن ترقى إلى (النص الأصلي) لأبعاد متصلة بالذات والزمان والمكان والبيئة الشعرية وكلها بمثابة الرحم الحاضنة التي تخلَّقت فيها وبها القصيدة فمن أين للترجمة كل ذلك؟! وكيف لها أن تؤثر فيها؟! هل حاولت خوض غمار التجربة؟

 (***) لم أفكر في خوض تجربة النقد لأنني لا أجيد لغة أخرى تسمح لي بذلك.

 

  1. إن لكل قارئ للشعر طبيعته الخاصة، وإن كثيراً أو قليلاً من الإعجاب بالقصيدة ليرجع إلى كونها تقدم تجربة تشبه تجربة المتلقي، أو حالة من حالاته، وهو ذو حساسية خاصة، وثقافة خاصة، وإن له آراءه وموقفه من الحياة والكون، ولا بد أن يؤثر ذلك كله في موقفه من الإحساس الفني والجمالي بالقصيدة.. وبصفتي قارئا دائما أقول للشاعر: من حقك أن تكتب ومن حقي أن أفهم !! هل تضع القارئ في أجندة حساباتك عند الكتابة؟ أم ترى أن الشعر له من القداسة ما تجعل الشاعر فوقيّ وعلى القارئ أن يمر بمعاناة كالتي عاشها الشاعر للوصول إلى المعنى؟

(***) في النص الشعري الحديث لم يعد موضوع الإبهام والغموض مطروحا كما كان الحال مع التجربة الشعرية التي عُرفت بحركة السبعينات، حيث كانت التركيبات اللغوية المعقدة التي تصدم الذهن من أبرز سماتها، الشاعر في التجربة التي أنتمي إليها يعتمد على البساطة والتفاصيل الحياتية الحية وكل ذلك يجعل النص في المتناول... وأنا لا أومن بحق المتلقي في الفهم فقط، بل أراه عنصرا جوهريا، فقصيدة بلا قارئ يستوعبها مجرد منام شخصي يذهب إلى النسيان، وكأنه لم يكن... الوضوح لا الغموض هو غايتي، فالشعر في النهاية بيان وإفصاح، والشاعر إنسان عاديٌّ تماما، لا يتمتع بأي مكانة تؤهله للوصول إلى رؤى لا يبلغها سواه.... والقارئ ضلع في مثلث القصيدة، فكل قصيدة تكتب لقارئ ما، والضلع الآخر هو الشاعر، فكل قصيدة تحمل بصمة كاتبها، أما الضلع الأخير فهو الشعر نفسه، وهو تعبير وجمال وكشف معا، فالكتابة تكشف للشاعر نفسه أشياء لم يكن يدركها، والقارئ يمكن أن يكتشف في النص ما لم يدركه الشاعر نفسه.

 

  1. إن النقاد يدعون إلى الموضوعية وإلى العلمية، ولكن الواقع والممارسة العملية يؤكدان أن محاولة الناقد التجرد الصارم، أو التام، عن قناعاته الفكرية والعقدية أمر غير مستطاع، وأن قناعة الناقد (الجمالية) لا بد أن تهتز – إن لم تقل تنهار- أمام نص (فاقع الدلالة) في تقديم فكرة عن الحياة والكون مخالفة كل المخالفة لما يعتقده أو يحس به.. هل لديك إشكالات مع النقد والنقاد؟

(***) التسلح بالمنهج العلمي من ضرورات العمل النقدي، لكنه في حد ذاته لا يصنع ناقدا، فالشعر يعكس لغز الإنسان، ويظل وعلا بريا تعجز عن اصطياده النظريات، وكلما أمسكت به نظرية أفلت منها ثانية، الناقد في تقديري مبدع، وكلما حاول النقد أن يكون علميا فقط كلما هرب الشعر منه، وهناك دراسات كثيرة تتسلح بالعلمية في دراسة النصوص لكنها لا تغني ولا تثمن من جوع، ولا توجد دراسة؛ مهما بلغت درجة العلم فيها تدعي أنها أحاطت بقصيدة إحاطة كاملة، وهكذا يظل الحديث عن قصيدة جاهلية مفتوحا حتى الآن، وباختصار، لدي خصومة مع الناقد الذي يعتمد على علمه فقط، لدي خصومة مع الناقد المتجمد الذي لا يتمتع بقدر من المغامرة، أو يفتقد القدرة على تجاوز حواجزه الذهنية والانفتاح على النص بكل كيانه لا بعقله فقط.كما لدي خصومة مع الناقد الذي لا يعتبر النقد رسالة في المقام الأول، أو يرفع مكاسب النقد الأخرى كالشهرة أو الحصول على إجازة علمية، أو أية مكافأة مادية، فوق فائدة النقد الجوهرية بوصفه رسالة ثقافية عظمى وقيمة في حد ذاته، وللأسف تمتلئ حياتنا الثقافية بمن يلعبون بالنقد لعب الحواة والدجالين، كما تمتلئ بالمتجمدين ذهنيا.

 

  1. إن النخبة الثقافية العربية، تبدو مهمومة بالواقع، وتفكر به حيناً، وتتحدَّث عنه في جميع الأحيان، ويتلبسها الوهمُ، بأنها في كلامها، تؤدي دورها الثقافي والاجتماعي، بل يتصرَّف البعض من المنتمين الى هذه النخبة، تصرف المدِّل المتفضِّل على الآخرين والمتميز فيهم..

(***) النخبة الثقافية مصطلح مُضلِل جدا، يضم الكثير من الزائفين، والحواة، والبهلوانات، وهؤلاء في الغالب يحتلون المشهد إعلاميا، ويلعبون طول الوقت ـ بقصد ودون قصد ـ من أجل تشويه الثقافة وقطع الطريق أمام المثقف الحقيقي، وما ذكرته أنت عن تصرف البعض تصرف المتفضل المتميز يكشف عن هويته الزائفة، فالمثقف لابد وأن يكون حرا ونزيها وصاحب رسالة، يحركه الواجب الإنساني، ويراهن على مكاسبه الداخلية في المقام الأول، ولا يمكن أن تناسبه صورة المدلل المتفضل على الآخرين. وفي تقديري لا توجد نخبة ثقافية بمعنى الكلمة، لكن توجد حركة فردية  للمثقفين الحقيقيين، الذين يؤدون دورهم ببطولة كبيرة، في ظل واقع يحاصرهم بقسوة شديدة، أو يحاول أن يستعملهم  كأدوات في ألعاب أو معارك لا تخصهم.

 

  1. هل تعتقد أن الشاعر في عصر ثورة المعلومات والتدوين الإلكتروني فقد (نبوءته) و(كفرت) الأجيال الجديدة بدوره التنويري وتمردت على وصايته الكاذبة؟

(***) لن يفقد الشاعر دوره التنويري أبدا، لأن مفهوم الشعر نفسه يتجدد ويتسع بفضل حوار الشاعر مع الواقع، فالشعر ليس شيئا معلبا بل هو كائن حي ينمو بنمو الإنسان حضاريا،ويتفاعل مع تحدياته الجديدة، ولاشك أن صورة الشاعر الآن تعبر عن كائن هامشي مهجور ومنبوذ، لكن الوضع الإنساني المأزوم ـ رغم التقدم العلمي والتقني ـ يكشف عن حاجتنا الكبيرة للشعر، كما أن الشعراء الجادين يبذلون جهودا حقيقية لتحرير الشاعر من الصورة المشوهة التي جرحت قيمة الشعر، منذ صار الشاعر يعمل في بلاط الساسة، وراح يوظف الشعر في أغراض غير شعرية، كما هو الحال في الدور الإعلامي والدعائي للشاعر، ذلك الدور الذي تعانق الشاعر فيه مع السلطة فانتقلت إليه أمراضها وهذا تحديدا من أبرز ما ترفضه الأجيال الجديدة. لقد بدأت تتغير صورة الشاعر في عصرنا، أو على الأصح تحررت من ملامح غريبة عليها لكنها ارتبطت بها ارتباطا جعلنا نعتقد في أصالتها بينما هي زائفة، ومهما كان الوضع الهامشي للشاعر في حياتنا الآن، إلا أنه سوف يستعيد حيويته وعافيته، طالما ابتعد الشعراء عن الجمود ونسخ التجارب القديمة، وانفتحوا على واقعهم، وعلى الشعر، بشكل عميق.

تعليق عبر الفيس بوك