جمال عبد الناصر واتهامات عمرو موسى؟!

 

عبد الله العليان

الاختلاف الفكري والسياسي سنة كونية وبشرية، لا نستطيع أن نتهرب منها، أو أن نُفسرها بتفسيرات قد لا تتفق مع مضامين هذه السنة الكونية، فلربما نخطئ في إعطاء هذا الاختلاف بعداً آخر مُغايرا لمُحدداته ومُعطياته حسب الواقع، لكن المشكلة التي تجعل هذا الاختلاف الطبيعي بين البشرية، قضية أخرى ليس لها ما يربطها بمسـألة الاختلاف، خصوصاً عندما نتظاهر برؤية نتخّفى حولها.

ثم نأتي بعد ذلك بعقود برؤية أخرى مناقضة لها تماماً، تجعل تلك النظرة تنقلب رأساً على عقب، دون أن يكون لتلك الرؤية ما يسندها ويؤكدها من خلال أسانيد تجعلها بعيدة عن الشبهات وتجاوز الحقائق الدامغة، ومنذ أسابيع أصدر السياسي المصري عمرو موسى وزير خارجية مصر، وأمين عام جامعة الدول العربية الأسبق، مذكراته التي حملت اسم (كتابيّه) الجزء الأول، ونشرت الصحافة المصرية بعض فصول هذه المذكرات.

ومما قاله عمرو موسى، أنَّ الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر:" كان يستورد طعاماً خاصاً له من سويسرا، لاهتمامه بنظام غذائي يؤدي لخفض الوزن، وكان يُرسل من وقتٍ إلى آخر من يأتي له بأصناف مُعينة من الطعام الخاص بنظام الحمية من سويسرا". ولم يتوقف عمرو موسى عند هذا القول فحسب، بل إنه اتهم الرئيس عبد الناصر باتهامات عديدة، بحسب ما صدر من أخبار وتعليقات على المذكرات، وأن "عبد الناصر قاد مصر إلى الهزيمة في حرب 1967، وأنَّ "مظاهرات التنحي مسرحية" إلخ: ولعل أغرب التهم التي نقلت عن هذه المذكرات لعمرو موسى، أنَّ سياسات عبدالناصر هي "سبب اندلاع ثورة 25 يناير2011"!! وهذه التهمة الأخيرة عصية على الفهم والإدراك لغرابتها، صحيح أنَّ بعض هذه التهم التي قالها موسى في هذه المذكرات ليست جديدة، فقد قالها بعض السياسيين المعارضين، سواء لأسباب سياسية أو شخصية في عقود مُختلفة وقد ردَّ عليها البعض في دراسات ومؤلفات، لكنني أود الحديث عن ما قال عمرو موسى في هذه المذكرات:

أولاً: ما قاله عن استيراد الرئيس عبد الناصر رحمه الله، لطعام خاص من سويسرا لا تجده من الكثيرين، رغم اختلاف البعض مع سياساته، فحياة الرجل الشخصية تكّذب ذلك، فحياته كما عرف عنها من أقرب مساعديه، لم تكن كذلك من التميز، فهو بسيط في مأكله ومشربه، وهذا ما ذكره المرحوم صلاح الشاهد(كبير الياورات) في القصر الجمهوري المصري، في سيرته الذاتية(ذكرياتي بين عهدين)، ويقصد العهد الملكي والعهد الجمهوري، والكتاب صدر بعد وفاة عبد الناصر، وفيه سرد لحياته الشخصية التي لا تستقيم وما قاله عمرو موسى عن استجلاب الأكل من سويسرا إلخ، ومن هؤلاء الذين كذَّبوا ذلك السياسي / سامي شرف وزير شؤون رئاسة الجمهورية في المرحلة الناصرية، والقريب من عبد الناصر حتى وفاته. والكاتب الصحفي/ محمد حسنين هيكل رحمه الله، كذّب هذا الادعاء قبل ما يزيد على أربعة عقود، في مسألة طعام عبد الناصر، ورأيه في جديد الأطعمة العصرية، ففي كتابه(لمصر لا لعبد الناصر)[صدر عام 1976] قال:" لم تكن للرجل ـ وهذه حقيقة عرفها كل الذين خالطوه في مصر أو في العالم العربي أو في الدنيا الواسعة كلها ـ شهوة في طعام أو شراب. وكان أفخر الطعام عنده على حد تعبيره ((لحماً وأرزاً وخضاراً)) و((ماذا يأكل النَّاس غير ذلك؟)) كان تساؤله ذلك مشوباً بالدهشة والاستغراب حينما كنت أقول له في بعض المرات مداعباً ((إن الدنيا تقدّمت ومع التقدُّم تطور المطبخ ولم يعد الطعام وسيلة للشبّع ولكنه أصبح فناً من فنون الحياة))،وكان ذلك في رأيه تجديفاً يكاد أن يقترب من الكفر بنعمة الله!".

ثانياً: أن هزيمة 1967، يجب أن تقيّم تقييماً عادلاً بعيداً عن الخلافات السياسية والفكرية، وأن الظروف التي قادت إلى الحرب، كانت معدة سلفاً، فوجود أكثر من 70 ألفاً من الجنود والضباط المصريين في اليمن، هو ما دعم المُخطط الإسرائيلي وجعلهم وبدعم من الاستخبارات الأمريكية، يعدوا العدة للتحرك لهذه الحرب من خلال تهديد ليفي أشكول رئيس وزراء إسرائيل آنذاك، عندما هدد بضرب العاصمة السورية دمشق، مما دفع القيادة المصرية إلى التحرك للوقوف في وجه هذا التهديد من خلال الاستنفار العسكري، إلى جانب أن القيادات العسكرية في ذلك الوقت لها عيوبها وسلبياتها سواء في الخبرة العسكرية، أو التكتيكية، والتي ربما غابت عن القيادة السياسية، والقصة معروفة للجميع، ما جرى مع هؤلاء الضباط ليلة الخامس من يونيو عندما لم يضعوا الطائرات الحربية في حالة الاستنفار الكامل والتي نبّه إليها الرئيس عبد الناصر في اللقاء الشهير مع القيادات العسكرية، قبل الحرب بعدة أيام، حيث هاجمت الطائرات الإسرائيلية أحد عشر مطاراً عسكرياً والطائرات جاثمة في هذه المطارات، وقد جرت محاكمات عسكرية لهؤلاء الضباط في عام 1968، فتحميل الهزيمة لفرد فقط، ليس حكماً منصفاً، وتظل أحكاماً سياسية، بعيدة عن التقييم العادل لهذه الحرب وتداعياتها، وهناك الكثير من القيادات الكبيرة تحدثت عن هذه الحرب، ولم تقل ما قال عنها عمرو موسى في مذكراته، ومنهم المشير عبد الغني الجمصي، والفريق سعد الدين الشاذلي رحمهم الله جميعاً.

ثالثاً:ما قاله عمرو موسى في هذه المذكرات ـ كما نشر عنها ـ أن سياسات عبد الناصر هي "سبب اندلاع ثورة 25 يناير2011"! والحقيقة أن هذا القول يبعث على الضحك، أكثر مما يدعو للبكاء، فكيف نحمل المرحلة الناصرية، أسباب ثورة 25 يناير بعد 41 عاماً من وفاة عبد الناصر، وبعد تولي رئيسين سابقين بعده (أنور السادات وحسني مبارك)، هذا ما يجعل القول يثير الاستغراب، ويطرح الكثير من علامات الاستفهام، فكل ما كتب وطرح، لم يشر إلى هذا الرأي البديع الذي لا نظير له في التقييم، ولعل هذا القول يعد هروباً من الأسباب الحقيقية لما جرى في 25 يناير، فعمرو موسى كان في مرحلة طويلة جزءًا من هذا النظام، وليس بعيداً عنه، ويذكر الكاتب الأمريكي (بوب وود ) ـ كما نقل ذلك الكاتب تميم منصور ـ "أن عمرو موسى اشترك مع الرئيس مبارك في توقيع بروتوكول مع الولايات المتحدة يخول جهاز المخابرات الأمريكية التجول بحرية في ربوع مصر وجمع المعلومات عنها دون اعتراض أحد". مع أنه كان طيلة فترة عمله السياسي يتظاهر بأنه ناصري وقومي في فكره، وفي نظرته للتحولات السياسية الجارية، وحتى أقرب المقربين للرئيس حسني مبارك، لم يقولوا هذا القول، لرمي الاتهام عن هذا النظام وعن فترة حكمه، فكل الأقوال كانت تشير لوضع مصر آنذاك بظروفها ومشكلاتها، وليس لأسباب خارجة عنها كما قال موسى في هذه المذكرات، صحيح أن المرحلة الناصرية، كانت بها أخطاء جسيمة، لعل أهمها، غياب الحريات عموماً التي كانت في المرحلة الملكية، وتأميم الصحافة، وإلغاء التعددية الحزبية والإبقاء على الحزب الواحد (الاتحاد الاشتراكي)، وهذه ربما أسمهت في سلبيات أخرى ما كان لها أن تحدث لو تحققت الديمقراطية والتعددية في مصر، مع أنَّ هذه المرحلة، لا شك حققت إنجازات كبيرة وهامة، لعل أهمها الإصلاح الزراعي، ومجانية التعليم، والعدالة الاجتماعية، وتكافؤ الفرص بين المواطنين، ومشروع السد العالي، وغيرها من الإنجازات..قال تعالى(لايجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا، اعدلوا هو أقرب للتقوى) صدق الله العظيم.