شهرة فارغة.. ولهاث مسعور!

د. صالح الفهدي

كان الفراغ مداناً، وممقوتاً؛ لأنه لا ينتج إلا كسالى، ولا يروج إلا لنفوس خاوية، فأصبح اليوم محبوباً وثميناً؛ لأنه ينتج نجوماً عبر وسائل الإعلام، والتواصل الاجتماعي! كل فارغ أصبح يعرف الطريق إلى الشهرة، والمال، وابتزاز المشاعر؛ فلبس ثوب السخافة، وظهر بمظهر السفاهة، وأنزل نفسه منزل التفاهة، فكان له كما يشتهي في قومه وجاهة؛ فبئس من ثمن للشهرة الوضيعة التي ينالها كل من أرادها بأبخس الأثمان، وأيسر الطرق  كما يصور الأديب الإنجليزي برنادشو؛ الأمر حين يقول: "الانتحار هو الطريقة التي تجعل الإنسان مشهوراً دون أن يمتلك قدرات"!

لم يكلف نفسه عناء البحث عن الفكرة الوجيهة، ولا الحكمة الحصيفة، ولا الرأي النصوح، ولا العلم الذي يفتح باب العقول، بل سفه الأذهان بما يقول، وأغراها بما يصول ويجول، فما أضر به قول، ولا اكترث لضمير غير مسؤول..! فأصبح هو العلم العاقل، وغيره الحاقد الجاهل، يُدعى إلى الصفوف الأولى، ويُلتمس منه وساطة الرسالة السامية، وهو الدنيء السفيه..! ويطلب منه توعية الناس نحو رقي الأخلاق والأفضال وهو أول من ألقاها في مستنقعات الشهرة، وأرداها في وحل التسفيه والاختبال!

علم أن عليه أن يكون سفيهاً ليكون في عالم الشهرة شريفاً، وجهولاً ليكون في سيرة الناس عالماً، وغثاً ليكون في وسائل الإعلام رمزاً وقدوةً..! فلم تعيه وسيلة، ولم تمنعه حيلة، فخلع الحياء، ورمى بالعفة، وأسقط عنه الأدب، ولم يحفل بحسب أو بنسب!

فتلقفته القلوب تلقف الغيث بعد جدب، وانهالت عليه العروض من كل صوب وحدب، فأقيمت له المحافل، ودعيت لأجله الجحافل؛ فإذا هو كفارس يأتي على فرس أشهب، وكأنما بعثه الحكماء رسولاً ينفح الناس قداسة الفكرة، وسمو الفضيلة، أو رشحه الوجهاء ليخلص الأمة من مصائد الخصومات، وأشراك المكائد..! ووضع -جنابه- في المقام الأرفع، يحاول أن يكتم ضحكته البلهاء، ونظرته الخرقاء، مع أن حقيقته مكشوفة، وأخلاقه معروفة! وما هذا وأشباهه إلا من ربقة أولئك الذين وسمهم د.مصطفى محمود بالجنون بقوله: "مجانين يا عزيزى هؤلاء الناس الذين يتخذون المال هدفاً، والشهرة غاية، والطمع خلقاً، والغرور مركبا...".

يُحكى أن شخصاً لبس ملبوس العلماء فيما سلف من الدهر، واتخذ هيئتهم، فقد كانوا مميزين بلباسهم وعمائمهم آنذاك -على عكس حال اليوم- ومضى ليزور قوماً في بلدة من البلدان، فاستقبلوه استقبال العلماء الأجلاء، وأنزلوه منزل الشرفاء الأصلاء، وهو يكاتم نفسه، ويخفي سره، ويكبح لسانه من أن تتفوه بكلام يكشف منه سره، ويعرف فيه قدره، وظل على تلك الحال والقوم يتوددون إليه بعد عزومة مكلفة أن يقلدهم درراً من حديثه المستنير، وأن ينفح قلوبهم نسائم من أنوار الوعظ والتذكير.. وهو يتمنع عن إبداء النصيحة، خوف الفضيحة، ويقاوم خشية الإذلال بعد العزة والإجلال.. حتى أثقلوا عليه طلباً، وغلبوا عليه إلحاحاً، فنطق وليته ما نطق..! إذ كان نطقه أبعد شيء من درر الكلام، وأدنى مما اقتضاه المقام..! فأفاض من النكت السخيفة، وأهال من الدعابة المأفونة، وأثرى من الفكاهة التافهة، فعرف سره، وفضح أمره، فخلعت عنه العمامة، ورفعت عنه الحماية، وطرد شر طردة!

ذاك كان في زمن يُمقت فيه الجاهل، ويُبجل فيه العاقل، ويُفتخر فيه بالشجاع الباسل، أما زماننا فللجاهل الترف، وللعاقل القرف، ينعم السفيه بجهله فيه، ويشقى العاقل بعقله فيه، وكأنما صدق المتنبي فيهما وصفاً بقوله: "ذو العقل يشقى في النعيم بعقله/وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم..! فالتي تلقي عنها ثوب العفة يكثر متابعوها، وإن كانوا ليقولون إنهم ساخطون، متذمرون، يرشقونها بالتهم الشنيعة، والدعاوى الفظيعة، فإذا رأوها فكأنها الزهرة في السماء، والوردة في الروضة الغناء. والذي يتميع ويتلاين ويتغضن وجد من يتسوق من بضاعته، ويتسلى من ميوعته، حتى أمسى فعله مألوفاً، وفحشه مكشوفاً..! والذي يسقط الحدود، فيهتك عرضه طلباً للشهرة، وابتغاءً لزيادة في اتساع شعبيته، تحقق له ذلك وإن كان من المسخوطين عليهم، إلا أن فعله الدنيء ذاك إن لم يواجه بسوط القانون اللاذع، فلن يكون له من أدبه رادع، ولا من ضميره وازع. يقول ابن القيم: "للعبد ستر بينه وبين الله، وستر بينه وبين الناس؛ فمن هتك الستر الذي بينه وبين الله هتك الله الستر الذي بينه وبين الناس"، وهكذا فعل هاتك ستره!

المشين في الأمر أن هؤلاء أضحوا قدوات لبعض الشباب والفتيات، وهم أسوأ القدوات؛ لا يأتون بخير ما يأتي به نجوم السخافات في الأفلام والأغاني المبتذلة، أولئك الذين حرفوا مفاهيم الفن الراقية، وضربوا بجماليتها عرض الحائط من أجل الشهرة والمال وفساد الأذواق، وإضاعة الأخلاق.. كالذين عناهم نابليون بونابرت بقوله: "من لا يمارس الفضيلة إلا لاكتساب الشهرة كان أقرب إلى الرذيلة".

تغيرت مفاهيم الشهرة، فأصبح كل من يصدر البلاهة والسفاهة يسمى فناناً، يدعى إلى البلدان ضيفاً عزيزاً، ويكرم بما لم يحظ به أبنائها النجباء من تكريم..! وأصبح ذاك الذي يتصيد أسرار الناس ليفضحهم على حين غفلة بطلاً مغواراً لأنه استطاع أن يكشف حقيقة من لا يساوي شيئاً أمام قامته، ولا إنجازاته، ولا مفاخره..! يكشف ما يحسبه سرًّا يكشف به من وثق به، وجاء عانياً تقديراً ودعماً له، غير مدرك بأنه مستدرج إلى مصيدة..! فصار فعله السفيه عند البعض عملاً بطوليا يستحق عليه الشهرة، والدعاية، والضيافة.. فإذا جاء ضيفاً حسب الحضور أنه يحمل رسالةً بناءةً، وعقليةً معطاءة، غير أنهم سرعان ما كشفوا خواء مسلكه، وخلاء طريقته!

وإذا ظهر على الشاشة من غدا مشهوراً دون علم مشهود، ولا فكر معهود، تكالبت عليه الدعوات، وانفحت له أبواب السعود، واستقدم مبجلاً كريماً ليتحدث في شأن الإعلام أو السياسة أو الأدب أو في أي درب من جروب الكلام الذي كان يهرج ويمرج به، فإذا بالمستمعين إليه يتنبهون للخديعة المتمثلة في شهرة فارغة، وزخم غامر!

أما أهل العقل، والعلم، والأدب، والحكمة، والرأي، والحصافة، والإبداع فلا شهرة لهم في إحسان، ولا فضل لهم في عرفان، ولا حظ لهم في امتنان..! هم الغرباء الأدعياء الذين حملوا هم مجتمعاتهم، وأمتهم، وأوطانهم، من أجل علو المجد، وسمو العهد، هم الأشاوس الذين يكسرون الحجر ليمشي البشر، ويرفعون العمد ليهنأ البلد، هم الأحرار النبلاء الذين يسكبون ماء أعينهم ليرووا شجر الوطن، كي يكتنفه الأمن، ويشتمله السكن، هم الأصلاء الذين تحرس أعينهم الحدود، وتقيم أياديهم السدود، وتحفظ صحائفهم مفاخر الجدود، وتعلي شرف أهلها فوق عالي النجود.. هم الذين لا عزة للأوطان بغيرهم، ولا كرامة لها بدونهم.

أما الشهرة الفارغة، فلا تزيد الأمة إلا خبالاً فوق خبال الحمق، وغثاءً فوق غثاء الجهل، ولا تلبسها إلا بريقاً خادعاً من الوهم والسفاهة؛ فالأمة التي تشغل أبناءها التفاهات تظل رهينة المتاهات، بينما تحسب نفسها في رفيع المقامات! إنه العلم والأدب وحدهما اللذان يصنعان للأمة المعجزات، ويكشفان عن أعينها رمد الغشاوات، ويزيحان من طريقها وهم التفاهات.