رايات الموتى (1)

...
...
...

هاني القط – روائي مصريّ


.....................
"يرى د. يسري عبد الله أنّ هاني القط يبني نصّه الروائي اعتمادا على استراتيجية للحكي يتقاطع فيها المساران المركزيان في الرواية ويتداخلان. ويمثل المسار الأول هنا الشاعر الإنجليزي "ويليام" الذي تنبأ بموته عبر قصيدة مؤثرة، في لحظة استشراف شفيفة ومؤلمة في آن، ومعه "جانيت" زوجته الحائرة، فقد استبد بحياتهما الملل، لينحو "ويليام" صوب فسحة من الحياة قد تمثلها "جاسمين بريان" الصحفية الشابة المولعة به من جهة، والغارقة في أنانيتها المفرطة من جهة ثانية. أما المسار المركزي الثاني فيمثله "سعيد"، الذي يصير شيخا جهاديا على يد أحد أمراء تنظيم الجماعة الإسلامية "الشيخ أبو مصعب"، وعينا على الأمير وأتباعه لحساب الأمن في الوقت نفسه. يلحق "سعيد" بآخر موجات الجهاديين في أفغانستان، ويعود ليصبح شريكا في مذبحة الأقصر عام 1997. وكما يقول يسري عبدالله؛ يلتقي مسارا السرد المركزيان حين يأتي "ويليام" للقاهرة لزيارة معالمها، ثم يسافر بالقطار إلى الأقصر، حيث يلتقي بسعيد وجها لوجه، ويصبح ويليام قتيلا، وسعيد قاتلا، وما بين لعبة المجرم والضحية، تتقاطع مساحات الحضور والغياب في النص وتتداخل، ويصبح التلاقي بينهما نقطة التماس الرئيسية بين خطي القص الأساسيين في الرواية".
الجزء الأول من الرواية:
في صحن المدينة الجنائزية غرب طيبة، بعد ساعتين من عبور الشمس خارج بوّابات الظلام، اخترقت طلقةٌ ناريّةٌ كتفَ الشاعر الإنجليزيّ (ويليام سميث)، الواقف يتملّى بدهشةٍ المقابرَ المنحوتةَ في الصخر. مهابة المكان هيَّأته للمفاجأة، البهاء الصامت من حوله لفَّه ضوءٌ شفيف، راح يتأرجح بين الأعمدة ويبرق في النقوش، لتنعكس ألوانُه أحدَّ من النصال، أحسَّ ويليام أنَّ أطرافَه ثقيلةٌ، وسَرَتِ الحرارةُ من النقطة التي اخترقتها الطلقة، حتى امتدّت في كامل جسده، لتفر الدماء منه، لائذةً بالرمل الشَّرِه.
بشيءٍ من الوعي استطاع التقاط أطيافٍ ممّا يدور حوله، الوجوه تصرخ بلا جدوى، البعض أُغشي عليهم، والبعض وضعوا أكفَّهم المرتعشةَ على رؤوسهم من الذهول، وبعيونهم فتيلٌ من الأمل في النجاة، تمدّد الباقي على الرمال مذعورًا من صوت الطلقات المجنونة، التي انهمرتْ من فوّهات الرشاشات الآلية، الوجوه التي قنصها الموت تناثرتْ هنا وهناك مثل الفراش المبثوث.
ملامح القتلة متنمِّرة، لمحتْ عينُ ويليام بعضهم، واستقرت على وجه أحدهم وقد أمسكت بتلابيبه كأنها تفتّش عن شيء؛ ستّة شباب، بعضهم تسلل من خلف الجبل، وبعضهم كأنه نبت من باطن الأرض، أطلقوا فوهات الرشاشات بلا رحمة، بدوا وكأنهم وجوهٌ مكررةٌ لجسدٍ واحد، يهتزّ بصلابةٍ خلف الرشاش الذي يوزع الموتَ بلا وعي، كستْ وجوهُهم أماراتُ الرضى بما يفعلونه، واتّسعت حدقاتُ عيونهم سعادةً وهم يصرخون بالتكبير مع كل طلقةٍ تستقرّ في جسد أفراد الأفواج الغارقة في الدماء.
المؤلم أنّ الملوك الواقفين ببهاءٍ في صدر المعبد لم يفكّوا أذرعهم المتشابكة على صدورهم ليذودوا عن زائريهم، الذين أتوا من بلادهم البعيدة، يقدمون لهم التحية والإجلال، من دون أن يدري أكثر الزائرين تشاؤمًا أنه يخطو في ذلك الوادي نحو موتٍ بلا رحمة.
كل حواس ويليام مأخوذة بذلك الصوت القادم من وراء حجاب، يتلو عليه القصيدة التي بحث عنها في أرجاء مدن وعواصم شتّى بغية العثور على كلماتها، ها هو الآن يسمعها عاليةً في ذلك الوادي الحزين، الكلمات يصاحبها عزفٌ سماويٌّ أخّاذ، لكهلٍ يجلس طيفُه مرتاحًا فوق سحابةٍ عابرة، الغريب أن كلمات القصيدة لم تكن تمتّ بصلةٍ للغات التي يعرفها البشر، وعلى الرغم من ذلك استقرّت في أعماق روح ويليام سميث، ولولا تلك الطلقة التي اخترقت كتفه ودفعته بقوة ليرتمي بظهره على الصخرة الجرانيتيّة لظلَّ مبهورًا بجرس تلك اللغة، التي سيعرف بعد وقت أنها لغة الأموات، التي يستعيضون بها في الحياة الأخرى عن لغاتهم التي تقف عاجزة بمجرد الولوج في النور.
على تلك الصخرة الجرانيتيّة طَبعتْ دماءُ ويليام النازفة شبحًا يشبه تكوين المسيح مصلوبًا في لوحة سلفادور دالي، قميص الشاعر الإنجليزيّ اصطبغ ببقعةٍ من دماءٍ اتّسعت ببطءٍ ماحيةً بياضه، اشتدت نغزة الألم شيئًا فشيئًا، لكنّ عينه الزائغة ما زالت تطبق بأحداقها على صور مقابر الملوك والعمال المنحوتة في الصخر، وأنفه يتشمم بلوعةٍ رائحةَ عطر حبيبته القادمة بها الرياح البعيدة من خلف النهر، تتحرك الشفاهُ لائذةً باسمها:
"جانيت، صدقتْ نبوءتي!"
كان لتلك الكلمات وقْعُ السِّحر في تحقيق النبوءة كاملة، حيث نبّهتْ سعيدًا، قاتله ابن السادسة والعشرين، فرفع بصره منتبهًا إلى همسه، صوّب طلقتين من بندقيّته الآلية لإسكاته، اجتازت الطلقةُ الأولى يد أحد الأشخاص، مكملةً طريقَها إلى صدر ويليام، لتقف على شفير اختراق جدار قلبه النابض، واخترقت الثانية كفَّ الشاعر، وقبل أن يستديرَ سعيد إلى غريمه اللدود صوّب طلقةً ثالثةً اخترقتْ قدمَ ويليام، عندها سقط متكوِّرًا بجوار الصخرة كما الرضيع، والدماء تنفجر بغزارةٍ من قدمه وكفه وصدره وكتفه، صابغةً الرمالَ الصفراءَ بحمرةٍ قانية.
تتعتّم الصورةُ في عيني ويليام شبه المفتوحة، فتختفي صورةُ الوادي العظيم رويدًا رويدًا إلى قرار الذاكرة، ويبدأ الغمامُ في التشكّل مكان الصورة المنطمسة، وفور هروب طيف الكهل الذي طوى سحابته خوفًا صَمَتَ كلُّ شيء، وكأنها الدنيا ما قبل أيام الخلق، لا نهار ولا ليل، لا قمر ولا شمس، لا أرض ولا بحر، لا ثلج ولا نار، لا شيء سوى روح ويليام وذاته. يغيب ويليام عن الوعي، وعن منطق الأشياء والزمن، فتحاول روحُه إلهاءَ الموت المتربّص باسترجاع بعض ما كان في الحياة، سيتذكر ويليام ماضيه راجعًا وقد يختلط به حاضرٌ تتلمّسه روحُه، ربما يحدث ذلك كهديةٍ أخيرةٍ له من الحياة التي سيفارقها حتمًا كما كل البشر.
بسرعةٍ يهرب القتلةُ الستّةُ بعربة بيجو بيضاء، اقتحموها مجبِرِين سائقَها تحت تهديد السلاح على الفرار بهم، تاركين المدينةَ الجنائزيّةَ تنزّ دمًا، لاثنين وستين قتيلًا ألقوا بهم وليمةً للرمال الصفراء، لا يحرسهم سوى قرص الشمس الذي توارى من الذعر خلف الجبل.
تهشّم زجاجُ الحافلة البرتقالية التي أقلّت الفوجَ من فندق إيتاب، اخترقتها الطلقاتُ من كل مكان، فبدت هيكلًا مشوَّهًا من الصاج المثقوب، وقد ارتخت على حديد إطاراتها فمالت قليلًا، الحراس وطاقم إدارة المكان، الذين استقبلوا الأفواج بالترحاب والبِشر، جلّهم ممددون، منهم من فارق الحياة، وقليلٌ منهم من بقي على قيدها يئِنّ وهو شبه غائب عنها.
قبل ساعاتٍ خرج أفرادُ الفوج من باب الفندق، بعد أن تناول الجميع إفطارَه، عدا (ويليام)، الذي نزل من حجرته مهرولًا، على بطنٍ خاوية، أغلق باب حجرته ونزل إلى بهو الاستقبال يراوده شكٌّ في أنه يسعى إلى نهايته، والتي لم يقدر إلّا أن يتبعها مغويًّا كطفل.
نزول ويليام لم يكن امتثالًا لإلحاح موظّف غرفة الاستقبال بقدر ما كان امتثالًا لنداء القدر، القدر ذلك المتخفّي كأبرع ساحر لم يُخطِئ مرّةً في إدهاش البشر منذ عرفوه، لكن ماذا لو تعرّف ويليام على قدره ورأى يقينًا ما آل إليه الآن؟ هل كان في استطاعته أن يغيّر مصيرَه ويرفض الانصياع؟!
فور صعود ويليام إلى الحافلة أخذ يرد كعادته على ابتسامة المرافقين له بابتسامةٍ فاترة، توقّف من أراد الاقتراب منه عند مسافةٍ بعيدة، كي يتاح له فرصة الاختلاء بحبيبته المُتخيّلة.
هوّةٌ سحيقةٌ بين ما كان عليه ويليام قبل أن تهجره (جانيت)، وما هو عليه الآن؛ المعروف أنَّ الإنسان، وهو يغادر أيامه، يترك كثيرًا من ملامحه، حتى يكاد يصبح شخصًا آخر كلما توغّل في وحل السنين. ويليام يدرك ذلك، لكن ما لا يدركه وظل مبعثًا للحيرة بداخله: إلى أين يذهب ذلك الشخص المغادر؟! - حقًّا أين يذهب؟! - لأنَّ ويليام ليس كبقية الناس، فقد أبقى على اتصالٍ خفيٍّ بكل من هجروه، بويليام الطفل الحزين، وبويليام الشاب الذي سبّب كثيرًا من المتاعب للأصحاب وللأقارب وللأحبة؛ لكنَّ خصامًا عميقًا ظل مع ويليام الخمسيني التعس، الذي تسلّل الشيبُ إلى شعره وقلبه من دون أن يشعر.
نهض الرجلُ المُسِنُّ طائعًا، ليجلس ويليام في مكانه المحبب، جوار النافذة، فكّر ويليام في أن يفك عزلته بالحديث مع ذلك المسن الذي تتسع ملامحه لكل تصوّر، يصَاحبه ذلك المسنُّ طوال الرحلة كظله، لكنَّ حاجزًا زجاجيًّا ظل يفصل بينهما، لم ينفذ من الحاجز سوى عدة ابتساماتٍ مصطنعةٍ على إثر القيام المتكرّر للمسن كي يتسنّى لويليام الجلوس، ثمة حديثٌ مراوغٌ بين عينيهما، على الرغم من الصمت الظاهر الذي يحافظ كلاهما على ألّا يجرحاه؛ هذا الحديث الصامت يكشف عن سرٍّ غامضٍ بينهما، لم يُبْدِ كلاهما أيَّ توق أو عزيمة لكشفه.
ويليام ينظر إلى الأفق عبر الزجاج بصدر منشرح، ينظر ولا يرى شيئًا، وكيف يرى وهو الشارد في ملكوت القصيدة التي تخاتل روحه كظلٍّ غير قادرٍ على الحياة أو الموت، ما أقسى حياة هؤلاء الشعراء! مقاتلون من نوعٍ فريد، يخوضون الحروب طوال العمر مع أرواحهم، كي ينتزعوا من أعماقها تلك النغمة السماوية التي تدوّي فيها بصوتٍ مكلومٍ ليلًا ونهارًا، تلك القصيدة التي ما من أحدٍ من لحمٍ ودمٍ يقرؤها حتى تنفكّ أمامه بعضُ طلِّسمات تلك النغمة السماوية التي تُجلي الروح وتقف على شفير رؤية ما لا ينبغي رؤياه، مجانين هؤلاء الشعراء! وهل من عاقل يسعى طوال حياته في كتابة أنين روحه واهبًا ذلك لأناسٍ تصمه بالخَبَل! فقط لأن الحياة فيها شيءٌ من العدل يهبهم بعض الحكماء أطواق الياسمين على شواهد قبورهم وهم يرددون كلماتهم الآسرة بصوتٍ حزينٍ، كنوعٍ من التكريم، لأنهم ضحوا بحيواتهم من دون مقابل، ولو زهيد، قبل أن تُكتَبَ أسماؤهم في قوائم الموتى ككل البشر.
يتدفّق الهواءُ الساخنُ بعبق رائحةٍ تغزو أنف ويليام، فتُشكِّل روحُه صورةً للمكان الذاهب إليه، كل مكان زاره ويليام في أي بقعةٍ على الأرض، تتكفّل الرائحةُ المتسرِّبةُ عبر الهواء بتعريفه له، فينحت المكانُ ملامحَه في ذاكرة ويليام بمداد الشم الذي لا يمحى، وتظل الرائحةُ ناعسةً في خلاياه، فإن استنشقها بعد أعوام استيقظ المكانُ فيه مردِّدًا اسمه، فتتعرّى حينها أمام خياله أدقُّ تفاصيل المكان وذكرياته فيه، يراها ويليام داخله كحقيقةٍ وهو مغمض العينين؛ وكان لمصر رائحة الحجر.
الناس في الشوارع غير عابئين بالحافلة البرتقالية، التي تسير ببطءٍ في شارع الوادي المكتظّ بالعربات التي تجرها الخيول، عيون أفراد الفوج مشغوفة برؤية وجوه العجائز والصبايا أصحاب البلد، عقولهم تقيم بسرعةٍ مقارنةً بين تقاطيع تلك الوجوه الخمرية وتقاطيع المومياوات والصور المرسومة على جدران المعابد، بعضهم يؤمن أن هؤلاء التعساء هم أحفاد الأجداد الذين نقشوا على الصخر مغزى الحياة وسرَّ ما بعد الموت، فيأسون لحالهم ويودّون أن يوقفوا الحافلة في عرض الطريق ليسألوا أحدَهم باستغراب: لماذا حدث لكم كل هذا الانحدار؟! بالطبع بعض من في الحافلة يؤمنون بقصص عن آخرين جاؤوا من عوالم غيبية، شيدوا تلك الحضارة ونقشوا على الصخر تلك الرسائل، ثم اختفوا كأبطال حكايات ألف ليلة وليلة الذين هجروا الأرض إلى عوالم أخرى على جناح طائر الرخ.
الحافلة تنعطف إلى وادي الموتى، العيون مندهشة وهي تتأمل مهابةَ الجبل الذي يظهر رويدًا رويدًا، وهو يحتضن المعبدَ الضخم، وخلفه المقابر المحفورة في الصخور، ترتسم البسمةُ على وجوه القادمين المفتونة بذلك المنظر الآسر، كل شيء في الوادي يغلّفه السكون، أصوات الرشاشات التي شدّ القتلةُ أجزاءها ابتلعها الوادي ثم ردّها في المدى كصوتٍ خَشِنٍ لطائرٍ أسطوريٍّ مُفزع، ثم ردّها ثانيةً في صدور أفراد الفوج كمارش حربٍ بدائيّةٍ تليق بالمشهد الجَلَل، في لحظة الصفر ركض القتلةُ بغلِّ الانتقام، مصوِّبين فوهات بنادقهم إلى القادمين للقيا قدرهم.
على الرغم من شعوره بالخطر  فإن ويليام كان أول النازلين من الحافلة البرتقالية، على غير عادته. نهايته لا تشغله بتاتًا؛ فمنظر المقابر كان من الجمال لدرجة أنسته كل شيء: نبوءته، وأحزانه الثقيلة التي جاء بها؛ فها هو يشاهد صحن المدينة الجنائزية كعجيبةٍ من الطبيعي أن ينظر إليها أي عاقل بإجلال، إنه يتقدّم إلى الأمام بمحاذاة أحمد الرفاعي وقد صار الفوج وراءهم، القتلة الستة أحاطوا بالواقفين من ثلاث جهات، وقد اندفعت طلقاتُهم مصوَّبةً بعنايةٍ إلى القلوب والصدور.
أتُرى لو لم يصرخ (ويليام) على حبيبته جانيت أكان قد نجا وبقي في هذا الحلم الذي يسميه كثيرٌ من العقلاء - بيقين يدعو للأسى – حياة؟

2
حياة القاهرة مريرة، القاهرة، تلك العجوز المخضّبة بالشيب، والتي ترتدي حلّةً مهلهلةً تليق بوجهها، وهي تمشي منهكةً في بحثها الطويل عن إجابةٍ لسؤالٍ حائر، كل شيء في المدينة مكفهِرٌّ وفي غير مكانه، السخط واليأس يملآن قلوبَ قاطنيها، المهرولين في شوارعها المزدحمة - دون نظام - على أمل الوصول في مواعيدهم، تمامًا كركّاب هذه الحافلة الستينية الرثّة، السائرة ببطء، والتي نُقِش على صدارة لوحتها المعدنيّة شبه الصدئة بالأحمر رقم مائة وخمسة وسبعين؛ هؤلاء الركاب المتخمون بالمرارة لن يصلوا كما يحلمون في موعدهم، على الرغم من خروجهم من منازلهم وقد بكّروا ساعةً كاملةً لاتِّقاء الزحام، الذي يلتهم الوقت، ويقضم ما تبقّى في نفوسهم من أمل.
السائق توقّف رغمًا عنه بالقرب من كمين شرطة قصر النيل إثر صرخات استغاثةٍ مباغتةٍ من راكبةٍ أربعينيّة، متعرِّقة الوجه، ترتدي جونلة سوداء واسعة، وبلوزةً خضراء بأكمامٍ مُغلَقَةٍ نهايتاها بزرٍّ بلاستيكيٍّ مُذهَّب، استدارت تلك السيدةُ ولطمتْ خدَّ الشاب الذي كان يقف خلفها ملاصقًا، امتلأت عيونُ الشاب الجاحظة بالرعب، وبدتْ ملامحُه الفقيرةُ متجمِّدةً، حاول أنْ ينطقَ بكلمةٍ فلم يستطع، حاول أن يتحركَ بجذعه خطوةً إلى الخلف، لم يقدر؛ توالت اللكماتُ عليه من معظم ركاب الحافلة ليذكرَ اسمه، لم ينبس بحرفٍ ولم يخرج من فمه – على الرغم من الضربات التي اشتدت وطأتُها - سوى آهاتٍ مدجّجةٍ بالألم.
ذلك الشاب - جاحظ العينين - هو من سيسدّد إلى قلب الشاعر الإنجليزي ويليام سميث عدّةَ طلقاتٍ بعشوائيّةٍ مفعَمةٍ بسخرية القدر، لتتحقّق أمنيةُ الاثنين كاملةً، سيحدث ذلك بعد ثلاثة أعوام وخمسة أيام من الآن، وسط السكون في بهو وداي الموتى.
اسم ذلك القاتل هو (سعيد)، وذلك طبقًا للمدوَّن في بطاقة هويته الورقية التي تحمل رقمًا وصورةً لوجهه الكئيب الشبيه بوجه ضفدع. العجيب أن سعيدًا على جهلٍ تامٍّ منذ ولد بتلك الصفة التي يحملها اسمُه، فالسعادةُ ما هي إلا أحلام لا ينبغي لأمثاله الدلوف إليها بالخيال أو بالتمني، كأنَّ الأسماء تُسمَّى في القاهرة فقط كي تستهزئ بحامليها، فقلبُ سعيد منذ وعى الدنيا وهو يخفق غير مطمئنٍ للقادم، الذي حتمًا ما توقّعه تعيسًا.
صرخة سعيد التالية جاءت واهنةً بعد أن فاقت الضرباتُ احتمالَه، إثر إفاقته من خدر التفكير في شيءٍ لا يعلمه سواه، استسلم للأيدي التي تركله وتصفعه بكل مكانٍ في جسده، تشبّث بسياج كرسيّ الكمساري الواقف، متأخِّرًا بجذعه إلى الخلف قدر جهده والركّاب يشدّونه إلى الخارج، حتى انهارت عزيمتُه أمام إصرارهم، وانزلقت يدُه القابضةُ على الحاجز الناعم، استسلم عندما شعر بأن لا جدوى من المقاومة.
الركابُ سَعِدوا أيّما سعادة بعد أن استطاعوا تسليمه إلى العساكر الواقفين في الكمين، سيتحدّث معظم الركاب بفخرٍ بقيةَ اليوم في كل مكانٍ يذهبون إليه عن بطولتهم تلك، وكذلك سينسج الجبناءُ الذين لم يبرحوا كراسيهم بطولاتٍ زائفةً تهبهم شيئًا من القيمة لدى زوجاتهم في الليل، وكثيرًا ما سيلجؤون إلى تطوير الحكاية في مستنقع خيالهم يومًا بعد يوم، متناسين دقّة ذاكرة نسائهم التي ستضجّ بعد وقتٍ لتفضحَ كذبهم الطفولي.
بادره الضابطُ بصفعةٍ وقد أخفى ابتسامتَه عندما نظر إلى سحّاب بنطاله المفتوح، سلَّمه الضابطُ إلى العساكر، فأوقفوه بينهم، توجّه الضابط إلى السائق الذي كان يراقب المشهدَ منذ طلوع سعيد إلى الحافلة والتصاقه بالمرأة، متلصّصًا من مرآة الخلف - كعادته - لكنّ النهاية اليوم لم ترقْه، السائق الذي بدا متعاونًا مع الضابط، لأسبابٍ تخصّ العطلة والخوف، أملى اسمَه ورقمَ الحافلة بأدبٍ بالغ، تأكّد الضابطُ من الرقم وهو يدوِّنه في نوتةٍ صغيرة. صاح الضابط على المرأة من شباك الحافلة؛ فأخفضت عينيها ولم ترد، كرّر النداءَ ثم تفهّم تخوّفَها من المشاكل، ولم يُلحّ ثانية. استأذنه السائق في الانصراف؛ فأذن له. مضت الحافلة وما زال في أذن سعيد طنينٌ من الشتائم والحكم والأمثال لأناسٍ لم يبرحوا مقاعدهم. فجأةً قطعَ صوتُ الضابط الطنينَ عن أذنه:
"اركنوا ابن الكلب وعينكم عليه".
أخيرًا وجد سعيد فرصةً ليعاتبَ نفسَه على ممارسة عادته التي حاول كثيرًا أن يتخلّص منها - بعضٌ ممّن عاقبوه بالضرب يمارسون عادتَه نفسها بحذر - لكنّ محاولاته يحطّمها كل يوم قسوةُ واقعه؛ فيدفعه يأسُه دفعًا إلى ركاب عالم اللذة الخفي، التي تصبح أقوى ألف مرّةٍ من صوت الرجل الخافت في داخله، والذي يتحدث إليه محذِّرًا، تلك اللذة ترمّم شرخًا في روحه أثناء فعلها، وتعيد الشرخَ أعمقَ ممّا كان بعد الانتهاء منها.
خلاياه تدفعه إلى الفعل - طبقًا لجدول بيولوجي - فور أن يتذكر سحْر ملاصقته الأولى لسيدة بضّة، كأنها حواء وكأنه آدم المفتون يودّ أن يستردّ ضلعَه؛ منذ سبعة أعوامٍ يحدث ذلك، تقودُه قدماه إلى محطة التحرير المزدحمة بالخلق، يقف على الناصية أعلى الرصيف، يتفرس في النساء المنتظرات بعينٍ جائعة، ومع أول حافلةٍ يزدحمن عليها، يندسّ وسط الحشود المندفعة إلى باب الحافلة الضيّق، لا يهمُّه في أي طريق ستتّجه الحافلة ولا في أي محطات سوف تقف، كل ما يشغله أن يحدِّد بطرف عينيه من بين النساء من ستسدّ جوعَه، يتتبعها كالذئب وهو ينسلّ بين الأجسام المتراصّة على الجانبين حتى يقف خلفها، يبتلع ريقَه المرَّ وبأنامله المدرّبة يلمس ظهرَ فريستَه الدافئ، ثم يمسح بكفه المرتعشة ظهرها الشحيم مداعبًا، كفه سماعة طبيب تتسمّع رعشةَ جسم الفريسة الواقف خلفها، فيدرك بخبرته مدى جوع فريسته من عدمه، قليلة هي الأجسام التي استسلمت له، واهبةً إيّاه جوابًا صريحًا بالموافقة. العجيب أنه في نهار ذلك اليوم البعيد، الذي وُهب فيه الرضا الكامل، نزل خلف فريسته، التي سارت ببطءٍ تنتظر منه أن يقترب ويتعرف عليها فتبتسم فاتحةً الباب للاتفاق على موعدٍ تتلاقى فيه الوجوه والأجسام، لكنه فور اقترابه ومحاذاة قدمه لقدم فريسته لم ينطق سوى ببضع كلماتٍ غير مفهومة، تبعها بالسؤال عن عنوان متخيَّل، ثم أخفض بصرَه بخجلٍ إلى الأرض، ودون انتظار جوابٍ لسؤاله دلف إلى شارعٍ لم يعرف إلى أين سيوصله، وطوال سيره في الطرق الضيقة سأل نفسه السؤال المعاد: متى تكف عن عادتك يا سعيد؟
لم يدركْ سعيد حينها سرَّ ذلك الشرخ الغائر في روحه، وطوال تلك السنين ما زال يسأل دون أن يعثر على جواب، ولا عزمٍ على الكف؛ كرْهُهُ الآن لنفسه يماثل تمامًا كرْهُهُ لكل نساء الأرض، فور أن يُشبِعَ جوعَه.
تنحصر اختيارات سعيد دائمًا في النساء اللاتي تعدّين الأربعين، والخالية أصابعُهن من خاتم العُرس، بعد أن فر من أمام أعينهن قطار الزواج حتى من فارسٍ أعرجَ من فرسان الواقع؛ عيناه تدرّبتْ على التعرّف عليهنَّ بسهولةٍ تدعو للإعجاب، ربّما من شفاههن التي تُظهر عطشَها للارتواء ولو مرّة بقبلةٍ مختلَسةٍ تحت بسطة سلّم الجيران، أو من عيونهن الحزينة الحيرى التي تبوح ببحثها الدؤوب عن وليفٍ من دون جدوى. كل جسد النساء جميلٌ في عيني سعيد الجائعتين، وأجمله على الإطلاق أردافُهن الثقال.
سيسأل سعيد نفسَه طوال وقوفه المضطرِب بين عساكر الكمين المترهِّلين: كيف حدث ذلك؟! فبظهر كفّه استكشف تضاريسَ فريسته بلذّة ونهَمٍ كما يفعل كل مرة، وحين تأكد من أنَّ جسم فريسته قد وقع في ارتباك، وأنها ليست قادرةً على الهروب من سجنها بين الكتل البشرية المحاصِرة لها من جميع الجهات في الحافلة، فَرَدَ شباكَه بكل حنكةٍ وقرّب جذعَه منها حد التلاصق، وبسهمه المدرّب داعبَ شق قبة اللحم الطريّ، ربّما خطؤه أنّه سبح بخياله موغلًا بقلب مدينةٍ هو ملِكُها المتوّج، نهرُها مكسوٌ بحجارة بيضاء، يتدفق عليها الماء الصافي ليعطي الحجارةَ نصاعةً وبهاءً أكثر، على صفحة الماء رأى صورة من يقف خلفها وقد تجردت تمامًا من ثيابها، رآها رأي العين تنحني بدلالٍ، لا لتروي عطشها من ماء النهر الزلال، بل ليروي هو عطش عينيه الشَّرِهتين المتابعتين لميوعة اهتزاز أردافها؛ ربما خطؤه أنه تمعّن طويلًا في خيالاته، التي دفعته إلى أن يُستثار ويلتصق بقوةٍ شاعرًا بليونة اللحم الطريّ، ثم التصق أكثر متخيّلًا إرواء فريسته من لذّةٍ هو مانحها الوحيد.. لقد كلّفه الإغراق في حلم يقظته الطويل هذه المرة، وعدم فصل جذعه عن ظهر فريسته في التوقيت الملائم، أنها ناءت بالضجر وصرخت تلطمه:
"تُرى لِمَ لأول مرّةٍ منذ إدمانك تلك اللذةَ تتأخر عن المروق من بين الأجسام كي تتجنّب ما أصابك يا سعيد؟!"
لم يكن سؤالُ سعيد نفسَه إلا نواحًا على حظه التعس، أكثر ممّا كان محاولة عاقلة منه للوصول إلى إجابةٍ دقيقةٍ عن الخطأ فيما جرى.
قرون استشعار سعيد الحادة في التقاط الخطر تشوّشت بفعل شيءٍ غير مُدْرَكٍ، وتفكيرُه شُلَّ في إثر الصرخة المباغِتة من فريسته، كان يمكن للحادثة أن تمر، وتتوه الصرخة في قلب صخب الازدحام، لكنها جاءت في توقيتٍ أُغلِقتْ فيه كل الأفواه، وكأنه ترقّبٌ مقصود، انتبهت آذانُ كل الركاب فاستدارت رؤوسهم تسأل:
"ماذا يحدث؟!".
السائق تخلّى عن مراقبته، وأخذ يضبط مرآتَه العاكسةَ كما ينبغي، لاعنًا اليوم الأزرق. الحافلة نقطة تتلاشى في الطريق، مكملة خطَّ سيرها الذي كان يجهله سعيد، الواقف الآن بلا حراك وسط العساكر يرتجف ويسأل: ماذا سيحمل له القدر؟!

تعليق عبر الفيس بوك