شجون في مفهوم الحضارة والمدنيّة

أ.د/ علي ثويني – خبير معماري باليونسكو – السويد


........................
ثمة حاجة لفك ارتباط مفاهيمي التبست به متجاورات بعينها، كما مفهوم (مدينة) و(مدنية)، و(حضارة)، أو التداخلات الاصطلاحية بين (الحضارة)، و(الحضر)، و(الحاضرة).
فكلمة (الحضارة) في اللغة العربية وردت من معنى الحضور والفعل إرادي للإنسان، وتميز عن  (المدنية) التي تعني فعلا غير إرادي. و للمدنيات إمكانية التصاعد في المنتج المادي لكنها لاتنتج بالضرورة حضارة، فلنأخذ مثلا بناء (الأهرامات)، أو (سور الصين)، أو(سجن المولى إسماعيل) في مكناس، كل ذلك المعمار ينم عن إنجاز، ويشي عن فعل إملاء وتسيير قسري سرى على إنسان مستضعف كدود ومقيود ومجبور لامجبول.
ولقد ظهرت كلمة (حضارة) في الغرب اقتباسا من المفهوم السابق في الثقافة العربية بصيغة "Civilization" في اللغة الفرنسية ابتداءا من العام 1734 وينحدر أصلها اللاتيني من صفة Civilisé (وتعني متحضر). وهذه الصفة منحدرة بدورها من فعل civilizer  التي تعود للقرن 13م، المشتق من الظرف اللاتيني civilement ، ومن صفة civil  وتعني مدني/ حضري المأخوذة بدورها من اللاتينية civilité وكذلك cité (مدينة/ حاضرة منذ القرن 11م) المأخوذة من (civitas ). وهكذا ارتبط مفهوم الانتماء للمدينة، وإلى جماعة منظمة تمثل الدولة أو تقوم مقامها، ارتبطت دلاليا بمفهوم التهذيب. فالإنسان المدني، هو المهذب.
وإذا كان المعنى الأصلي لكلمة الحضارة والتحضر في العربية يعني سكنى المدن والقرى, خلافاً لحياة البداوة (أهل الحضر، والمدر، وأهل الوبر) الخلدوني، فإن المعنى الأصلي لكلمة "مدنيّة" هو سُكنى المدن وطريقة العيش فيها, أي ما يقابل مصطلح "Urbanization" اللاتيني. وبذلك يمكن القول: إن "المدنيّة" تعني الجانب المادي من الحضارة، وتشكل "الثقافة" الجانب الروحي منها وإن "الحضارة" نفسها تتضمن كلى المعنيين.
و(المدنيّة) تعبير اجتماعي عصري يعني التوافق، والتكيف الإنساني لإنشاء علاقة مشتركة بين مجموع الأفراد والمؤسسات التي تتكون منها الجماعة الطوعية. والمجتمع المدني هو تطور عصري تخلى عن كل مظاهر العنف والعدوانية بين البشر وتنازلت فيه الجماعات المختلفة عن اختلافاتها لصالح التلاقي على قاعدة مشتركة.
لذا نجد اليوم في المجتمعات المدنية أصول عرقيه أو دينية مختلفة ولكنها متوافقة على استمرار الحياة المشتركة وفق آليات تنظم هذه العلاقة وتساعد على ديمومتها. وثمة مفهومان: الأول : أن المدنية هي شكل من أشكال الحضارة والثاني : أن الحضارة تتجرد حتى تصبح معبِّرة عن مجرد أفكار ومبتدعات إنسانية  متعلقة بالأساطير والدين والفن  والأدب، في حين إن المدنية تدل على المبتدعات الإنشائية.
ويذهب فريق من العلماء إلى أن المدنية شكل من أشكال الحضارة يختلف نوعاً وكيفاً عن الأشكال الأخرى ولايزال المفهوم قائماً، ويرجع  إلى القرن 18 في الغرب، حينما كان العلماء متأثرين بما أحدثته الاكتشافات العلمية من تقدم في مجال الحياة الاجتماعية وعنت المدنية، التحضر والتمدن. وذهب آخرون إلى أن اختلاف المدنية عن الحضارة، ليس اختلاف كم، وإنما اختلاف كيف.
فالمدنية تعد قمة الهرم الاجتماعي والحضارة قاعدته. فالمدنية هي المقدرة على التمييز بين قيم الأشياء، والتزامها في السلوك اليومي، فالإنسان المتمدن لا يضحي بالغاية في سبيل الوسيلة، كونه يحمل قيـمًا.  
وما ندعوه "الهمجي" أحيانا هو أيضاً متمدن بمعنى من معاني المدنية، لأنه انشغل بنقل تراث القبيلة إلى أبنائه، التي بدوره هذَّبت هذا التراث أثناء سعيها للاحتفاظ بحياتها على مكان بعينه. وإننا حين نطلق على غيرنا من الناس اسم "الهمج"، أو "المتوحشين"، أو البربر، أو "الأوباش apache " كما عرفناها من الأمريكان حينما أبادو شعب الهنود الحمر بحجة نأيهم عن "المدنية"، فقد لا نعبر بمثل هذه الألفاظ عن حقيقة موضوعية قائمة، بل نعبر بها عن فرط أنانيتنا لا أكثر؛ وعن انقباض نفوسنا إذا ما واجنا أشكالا من السلوك تختلف عما ألفناه؛ فلا شك أننا نبخس من قيمة هاتيك الشعوب "الساذجة" التي تستطيع أن تعلمنا كثيراً جداً من الجود والمكارم؛ فلو أحصينا أسس المدنية ومقوماتها لوجدنا أن الأمم الأولى قد أنشأتها أو أدركتها جميعاً، ولم تترك لنا شيئاً نضيفه سوى تهذيب تلك الأسس والمقومات، ومن يدري فلعلهم كانوا يوما متحضرين ثم نفضوا عن أنفسهم تلك الحضارة لما لمسوه فيها من شقاء النفس أو تبطروا فتحللو وذابوا؛ وعلى ذلك فينبغي أن نكون على حذر حين نحكم على الشعوب المتمدنة - وفق تعبير ول ديورانت في كتابه قصة الحضارة -؛ فقد كانت النساء الأمريكيات يعيرن الهنديات الحمراء بأنهن "همجيات" كونهن لايرتدين خمسة جلاليب لسترهن كما ألفن، ولكن اليوم نجد العكس، أي أمست"الهمجية" مستحبة.
ونجد في التراث الإسلامي رأيًا لابن خلدون يخص تطور المجتمع البشري من خلال مروره في أربع حالات تتدرج من البساطة إلى التعقيد وهي حالة البداوة وحالة الملك وحالة الحضارة وحالة التمدن .فمفهوم الحضارة عند ابن خلدون هو ذلك النمط من الحياة المناقض للبداوة والمتصف بالاستقرار في الحضر أي المدن، والقرى وما نشأ من زراعة للأرض وانتظام في الإدارة والصنائع والعلوم ومكاسب العيش ومن وسائل الرفاه الأخرى.
لقد حكم علماء القرنين 17و18 على المدنية بأنها (مجموعة من القيم والنماذج التي تحققها الإنسانية في تطورها ومجموعة من الألفاظ الاجتماعية والأخلاقية والصناعية التي يحققها المجتمع للوصول إلى السعادة الإنسانية)
وكان يعتقد بعض مفكري القرن 19 بأن المدنية خاصة بالمجتمعات الغربية وأن التقدم العلمي والتطور التكنولوجي هو بعيد عن الشعوب "غير المتحضرة" والعرب من ضمنهم. واتخذ العلماء الغربيين حينها معيار العلم والتقدم التكنولوجي أكثر من اتخاذهم معايير أخلاقية كأساس لتلك المفاضلة الحضارية، وهذا ما تلبسنا في الثقافة العربية.
فالعالم شبنكلر يعرّف المدنية في فلسفة للتأريخ بأنها مرحلة تفسخ الحضارة، تلك المرحلة تفقد فيها الحضارة حيويتها الخلاقة ومن ثمَّ تتحول إلى شيء آلي جامد، في حين ذهب آخرون في تعريفهم للحضارة بأنها المجموع الكلي لما يتعلمه الفرد في مجتمعه من سلوك.
ويذهب الخطاب النقدي للغرب بأن المدنية الغربية الحاضرة ليست مدنية، وإنما هي حضارة، لأن موازين القيم اختلت فيها، فتقدمت الوسيلة وتأخرت الغاية .ونجحت بالجانب "الصلب" المتعلق بالمخترعات وإنتاج وسائل الراحة لكنها خسرت الرهان على الجانب "الطري" المتعلق بالقناعات والإيمان والروح، وهذا يشكل جوهر أزمتها الحالية، التي نئنُ منها في الثقافة العربية.
حري بالحضارة أن تهتم بالنواحي الأخلاقية والروحية في حياة المجتمع إلى جانب المظاهر المدنية ويتعلق بتلك المعايير الخاصة بالمدنية إكتضاض المدن بالسكان، ووجود صناعات وحرف معقدة تقوم على التخصص الدقيق .
ومن يربط فكرة  المدنية بتطور المجتمع العلمي والتقني فإنه لاينكر ما لهذا التطور من أثر في المجال الحضاري أو الأخلاقي ففي انتشارهما ما يصرف الناس عن السحر والشعوذة،  أو الغلو والتكفير والتناحر والإرهاب، وهناك علماء آخرون يفرقون بين المدنية والحضارة على أساس الكم والكيف.
 وتعرف الحضارة حديثا بحسب البحوث الاجتماعية وتعني مستوى معين للحياة المادية والروحية والاجتماعية لمجتمع، و يقصد بها مجموع الحياة التي يحياها شعب أو شعوب، بما تحمل من تنظيم في الحكم وسبل في تحصيل المعاش وعلاقات اجتماعية ومعرفة نظرية وقواعد سلوكية وغيرها من المقومات.
ولا يمكن قيام الحضارة بوجود الانقسامات الطائفية والقومية والطبقية حيث إن نشأتها وتطورها وازدهارها يتطلب إجماعا في الرأي وتوفيقًا في الفوارق، بما يعني وجود تفاهم وأهداف عامة ومصالح مشتركة.
وبذلك فإن الحضارة ظاهرة فريدة تختلف اختلافاً كبيراً عن العناصر المكونة للمدنية التي تباع وتشترى، ثم إن مقومات المدنية لا تتصف بالقدسية والاحترام كمقومات الحضارة لأن باستطاعة كل فرد أن يدخل في حوزته المدنية لغرض التمتع بفائدتها ومنفعتها.
إن الروابط بين أفراد الحضارة ببعضهم هي المشاعر والالتزامات الخلقية والروحية والإخلاص والولاء المتبادل بينما تعم في المدنية الروابط المصلحية والتجارية – وفق تعبير أحمد عيسى في كتابه ماهية الحضارة والمدنية –
وحري القول عموما إن الفكر الغربي تمحور حول آلية الصراعات سواء كانت قومية، أو طبقية، أو حتى عقائدية، والتي وجدت طريقها للثقافة العربية من خلال الفكرين القومي والماركسي على حد سواء، الذي شاع وعمَّ في بواكير ما دُعي "حداثة"، لكنه تراجع في السنوات الأخيرة، بما تجلى عنه من هزال في النتائج، بالرغم من التوالد المستمر والمتصاعد لهذا الفكر الذي نلمسه اليوم في خطاب  فوكوياما، وهنتنغتون، وحملات العنصرية المتفجرة هنا وهناك، ومازال الحال مستمرا حتى نتحصن بما يمكن أن يصوننا من مهازل الصراعات العبثية التي أرادوها لنا وسيلة وغاية.

تعليق عبر الفيس بوك