حرية الأديب أم عجل السامريّ؟!

عبد الجواد خفاجي – ناقد وروائي مصري


من أخطر المفاهيم التي تعرضت لسوء الفهم هي "حرية الأديب".. وبموجب هذا الفهم الخاطئ تعرض الأدب للانتهاك، كما تعرضت الذائقة الأدبية للانتهاك، كما تعرضت حرية النقد لانتهاك. وقد أضحى الفهم الشائع لحرية الأديب يعني عند طائفة من الأدباء "عجل السامريين" لا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً ولا يهدي إلى رشد، وكذلك صار الأمر عند نقاد الأدب الذين يمارسون الإبداع بجانب النقد، وقد كان لهم دور كبير في ترويج أفكار مغلوطة عن حرية الأديب، ولم يكتفوا بهذا الجهد الذي يسير ـ بعمد أو بغير عمد ـ نحو التردي الأدبي والذوقي، بل جعلوا من منطلقاتهم الخاطئة تأسيساً جديداً ينال من الرسالة الأدبية، ويعمد إلى ترسيخ القطيعة بين الأدب والنقد بمفاهيمه العلمية، وتوجهاته التي لا تستثني المتلقي للأدب، كما لا تستثني التراكم المعرفي بنظريات الأدب، ومن ثم أضحى النقد الأدبي عند هؤلاء مجرد إفاضة ضد العلم، فيما يُفترض أنه علم، له نظرياته، ومناهجه، وجهازه الاصطلاحي الذي تتبناه النظرية الأدبية.
منذ ما يزيد عن أربعين سنة فُهمت الحرية على أنها تحرراً، ليس من المسؤولية الأدبية فحسب، بل من كل الضوابط الفنية، حتى صار الأمر تحرراً من أوليات التجربة الإبداعية واشتراطاتها، كما فهم على أنه تحرر من توجيهات النقد العلمية وما تستوجبه، حتى صار الأدب إما ترفاً لا نحتمله، وإما غموضا لا يسفر عن ضوء أو معنى، وإما خضوعا لأيديولوجيا دافعة لتحميل الأدب حرية لا يقرها، فما كان الأدب يوماً في خدمة الأيديولوجيا، كما كان يزعم الاشتراكييون من قبل، أو كما يزعم الليبراليون العرب الآن، وإن هي إلا مزاعم ترتكب الحماقة باسم الفن، وتضع الرسالة الإنسانية المفترضة في الأدب موضع الجريمة، وما كان الإبداع يوما جريمة، كما لم تكن الحرية يوما تحرراً.
باسم الحرية يهجر الأدباء الفن، وباسم الحرية يغتالون المسؤولية. وباسم الحرية يغتالون "الأدبية" ، وهم يلجأون ـ بكل تساهل ـ إلى استخدام اليومي والمعيش والاعتيادي من لغة ركيكة ساقطة من ذاكرة "الأدبية" بوصفها انزياحا عن لغة الكلام العادي، كما نادى بذلك الشكلانيون الروس، عندما اهتموا بوصف "الأدبية" وتوصيفها على أنها "عنف منظم يُمارس ضد لغة الكلام العادي" بحسب رأي رومان ياكبسون. وكما وصَّفها من قبل "ابن جني".
الأخطر من ذلك أنهم يواجهون النقد بمتاريسهم، وهم يطالبون النقد بالخضوع للغة التجاوز.! .. ولعل من المعلوم أن حرية الأديب مملوكة له حين يكتب، ولا يحجر عليه أحد وهو يمارس ما يزعمه من إبداع، وليس للنقد سلطة بوليسية تكتشف ـ مستعينة بالكلاب البوليسية ـ أن الأديب إنما يكتب الآن، وأنه يستخدم الآن لغة التجاوز، أو أنه يحوِّل الإبداع إلى اللاإبداع، أو أنه يلقى بالمسؤولية في حيز العبث، أو أنه يضحي بالفن من أجل الأيديولويجا، أو من أجل اهتمامات استثنائية تلح عليه مثل وصف البيئة أوالخضوع لمفاهيم قبَليّة تلح عليه خارج الفن. أو أنه الآن ينزوي خضوعا للذاتية ليتحول النص إلى إشارات نفسية تنم عن توجه مَرَضي، يستوجب العلاج النفسي، وقد تحول النص إلى إشارات نفسية غامضة، مغلقة ، فيما يزعم الأديب أن كتابته للمستقبل، وكأن المستقبل سيكون بلا أدباء، ومن ثم وجب الكتابة له من الآن، أو أن الحاضر لا يستوجب الاهتمام به والكتابة له، بزعم تخلفه عن اللحاق بطائرة المبدع التي تحلق فوق عربة الواقع الخربة.!
بالطبع، وبالضرورة ستكون للنقد كلمته، وستقع مثل هذه التجارب المتجاوزة تحت سلطة العلم النقدي، ليس بوصفه سلطة نفي، بل بوصفه سلطة تقويم، وسلطة تقييم.
غير أن للنقد حريته أيضاً، فليست الحرية للمبدع وحده، بل هي ممنوحة للنقد أيضاً، بوصفه إبداعا هذه المرة. فخضوع النقد للعلمية ليس معناه انتفاء الإبداع عنه. فكثير من العلماء في كل التخصصات العلمية مبدعون في مجال عملهم.
والذي أعلمه، ويعلمه الجميع، أن المبدع متى ما دفع بإبداعه الأدبي إلى المطبعة يكون كمن ألقى بحَجَره إلى الماء، ليس من حقه إن يعيده إليه وقد أضحى الحجر مِلكا للماء، وليس بمكنته أن يعيد حجره إليه، وليس له أن يحدد له مستقراً، وليس له أن يرسم الدوائر التي تنداح حواليه، وقد أضحى الأمر ملكاً للماء.
وحركة الحَجَر في الماء هي نفسها حركة النص في التاريخ، والماء هو حركة القارئ المفترض، وكل مُفترض يظل مفترضا في التاريخ.
الحرية أولا للمبدع، وأخيرا للتاريخ، ومن ثم فسلطة المبدع محدودة بحدود الطباعة، وسلطة النقد مطلقة بحكم أنها مطردة في التاريخ.

تعليق عبر الفيس بوك