أثواب الكسل (2)

 

عيسى بن علي الرواحي

 

تحدثت في المقال السابق عن أثواب الكسل، وكيف أنَّها صارت رداء لنا ونحن نؤدي فرائض العبادات أو نقوم بمهام الوظائف والمسؤوليات، وصار الشباب خاصة أكثر المتلبسين بالخمول والكسل رغم المرحلة العمرية المهمة التي يعيشونها، والأكثر من ذلك أنَّ أثواب الكسل تمتد لتشمل أغلب الفئات، وتطال كل المسؤوليات؛ فقد صار الكسل رداء لنا ونحن نطلب العلم رغم أنّ طلب العلم يحتاج إلى الهمم العالية والصبر الجميل، فصرنا نستثقل القراءة والاطلاع، وصرنا لا نقرأ كتابا ولا نبحث عن معرفة إلا في حدود ما يستوجبه المنهج التعليمي والمقرر الدراسي؛ فالضحالة المعرفية باتت السمة الغالبة لطلبة العلم في زمننا، وصرنا لا نذهب إلى المدرسة أو الجامعة إلا متثاقلين فاترين.

تجد من أبنائنا طلبة المدارس في بيوتهم من يعتمد على أمه أو عاملة المنزل حتى في أتفه الأمور وأبسطها، فشربة الماء يأمر عاملة المنزل أن تحضرها إليه، وكي ثوبه أو تنظيف نعله يعتمد فيه على غيره، وإن انتهى إفطاره أو أي وجبة أُحضرت إليه ترك كل شيء على حاله، فصار التثاقل والكسل والدعة صفات غالبة عليهم.

وانظر إلى حالهم مع طلب العلم إلا من رحم الله كيف أنهم يتأففون كثيرا من الواجبات المنزلية رغم قلتها، ويتذمرون من أدائها رغم سهولة حلها، ويهملون في تسليمها في وقتها المحدد رغم أهميتها، بل وصل الأمر ببعضهم أن يبحث عمن يحل له واجباته المنزلية؛ لأنَّ ثقافة الكسل غرست فيه منذ نعومة أظفاره، ورأى البيئة المحيطة يطغى عليها الكسل والتواكل في أداء العمل والتسويف في إنجاز المهمات. رفض أحد الطلاب ذات مرة أن يقوم بحل واجب منزلي كان يراه شاقا وغير معتاد عليه وأنَّه فوق كاهله، فلما نُوقش في ذلك قال بكل وضوح إنَّ أمه هي التي أمرته بعدم حل هذا الواجب كونه طويلا!

وانظر إلى حال أبناء اليوم وقت الإجازات، كم من الساعات التي يقضونها في النوم! وانظر إليهم ما مقدار العمل الذي ينجزونه في تلك الفترة، هذا إن أنجزوا شيئا أصلا! صار أبناؤنا يعتمدون على والديهم في أغلب الأشياء، وصاروا غير قادرين على إنجاز المهام الصغيرة فضلا عن الكبيرة، وهذا بلا ريب من سوء تربيتنا لهم وما أنشأناهم عليه من التواكل والكسل والدعة والراحة!

صار الكسل رداء لنا ونحن في بيوتنا وبين أفراد أسرنا وفي حياتنا الاجتماعية، فأين صلة الأرحام كما ينبغي؟ وأين الوقوف جنبا إلى جنب بين الأسر والأهالي في الأفراح والأتراح كما كان سابقا ؟!

وانظر إلى حال الشباب من الجنسين الذين دخلوا مرحلة الحياة الزوجية كيف صارت أثواب الكسل طاغية في كثيرٍ من نواحي حياتهم، فهناك من الفتيات المتزوجات من لا تُجيد طبخًا، ولا تتقن مهارة من مهارات شؤون البيت، فصار الاعتماد على المطاعم والوجبات السريعة أكثر من الاعتماد على سيدة البيت في إعداد الطعام، وصار جلب عاملات المنازل لضرورة وغير ضرورة، وكل ذلك في كاهل الشاب الذي هو بنفسه يعاني من خمول وكسل فلا يعتمد إلا على راتبه الشهري من المؤسسة التي يعمل بها.

تجد من النساء من صرن يعتمدن على عاملات المنازل في كل شيء، في كل صغيرة وكبيرة، حتى في خصوصيات المنزل، وخصوصيات فلذات الأكباد، فالطفل إن بكى أو شكى فعاملة المنزل أولى به من أمه، والطفل إن استوجب أمرا من متطلباته الضرورية فعاملة المنزل أولى به، ومما تأسف له كثيرا ما تشاهده باستمرار في المتنزهات والحدائق من قيام عاملة المنزلة بمهمة الترفيه للأطفال وتسليتهم بالألعاب الموجودة في حين يظل الوالدان على خمولهما وكسلهما مشغولينِ بهواتفهما؛ لذا فلا غرابة إنْ تعلق الطفل بعاملة المنزل أكثر من أمه، فقدْ فقدَ منها الحنان والرعاية حتى في أخص خصوصياته. وما أكثر القصص التي تُسرد عن بكاء الأطفال عند سفر عاملات المنازل عنهم!

ومما يُؤسف له أكثر من ذلك أن تزور أحدًا في منزله فتقوم عاملة المنزل بواجب ضيافتك أكثر من أبناء الأسرة، فهي التي تقوم بإحضار الماء والقهوة وما به حق الضيافة، في حين ترى الأبناء ـ إن رأيتهم أصلا ـ على الأسِرَّة والنمارق متفرجين، فهل من دعة وخمول وكسل أكثر من ذلك ؟!

وهذا يُذكرني بحالنا في مجالس العزاء فقد كنَّا في السابق إذا دخل المرء معزيًا ظل الجمع وقوفاً حتى ينتهي من مُصافحتهم أجمعين، أما اليوم فبالكاد يقف لك وقت مصافحتك فقط.

وإن جئت إلى حال مزارعنا التي كان يعتمد عليها آباؤنا في معيشتهم، فواقع الحال أصدق من المقال، فصار الاعتماد على العمالة الوافدة هو السائد، وربما لا يملك المرء سوى نخلات معدودات فيجلب لها عامل زراعة متحايلا بطرق شتى على القوانين التي لا تسمح باستقدام العامل إلا في حال كانت مساحة الأرض الزراعية تسمح بذلك وفق اللوائح والأنظمة. إننا اعتمدنا وللأسف الشديد على غيرنا في كثير من شؤون حياتنا.

لقد حارب الإسلام العجز والكسل والخمول وحثَّ على العمل والهمة والنشاط، فالإسلام دين عمل واجتهاد وكفاح، دينٌ يحث أتباعه أن يسخروا كل أوقاتهم وطاقاتهم في إعمار الأرض وكسب المعاش وتحقيق كل مفيد ونافع بما يُحقق لهم سعادة الدارين إن هم أرادوا ذلك، وما تقدمت شعوب الأرض إلا لأنَّها نزعت عن نفسها أثواب الخمول والكسل وارتدت أثواب الهمة والنشاط، وما تأخرنا إلا لأننا ركنا إلى الدعة والخمول وارتدينا أثواب الكسل، فإن بقينا على حالنا دفعنا أثماناً باهظة من أجل البقاء ولا بقاء لكسلان... والله المستعان.