أقزام الثقافة (2- 2)

أ.د/ إيمان محمد أمين الكيلاني
الجامعة الهاشمية - الأردن


 تحدثنا في المقال السابق عن نماذج من أقزام الثقافة، ونضرب ههنا مثلا آخر بدا يطفو على السطح لفظته الأمواج مع الزبد، صنف يُغمغم في مقالاته التي تقرؤها مرارا وتكرارا معملا كل ما تمتلك من أدوات تشريح النص لتكتشف خبث المضمون الكامن في رماد الكلمات، ومكر الرسالة التي تسلم إلى أن القرآن مقدّس، وإنّ التفسير ليس مقدسا.
وكون رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أول من فسَّر القرآن، ومن بعده أصحابه الذين تتلمذوا عليه مباشرة، فسألوه واستفهموا منه كل صغيرة وكبيرة؛ فإن ذلك يسلم إلى إطراح السنة النبوية المطهرة، وتلك فئة تسمي نفسها: "القرآنيين" بدأت في المشرق، ثم صارت تروّج في أمريكا، ويستشهد هؤلاء ببعض اجتهادات المفسرين الضعيفة في بعض المواضع؛ ليتخذوها ذريعةً لنبذ التفاسير كلها، ونسف السنة الشريفة كلها، وقد التقيت قبل عدة سنوات في أحد المؤتمرات العلمية بواحدة من أولئك، وتحمل شهادة دكتوراه في الأحياء،  وليس لها علاقة أصلا باللغة العربية ولا بالشريعة، ومع ذلك نصَّبت من نفسها مفكرة إسلامية، وتحدثت باسم المرأة، وادعت أن القرآن كافٍ، وأنه يساوي بين الرجل والمرأة، وأنَّ الخلل في تفسير المفسرين، وخَلُصت إلى ضرورة الاكتفاء بالقرآن وطرح السنة النبوية المطهرة، فحاججتها بعدة أدلة:
أولا - إن كثيرا من واجباتنا الدينية الأساسية التي ينبني عليها الإسلام لا نعرف كيفيتها إلا من السنة، كعدد ركعات الصلاة وكيفيتها، وأعمال الحج  والزكاة وغيرها.
ثانيًا - إذا كان رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم هو الموحى إليه بالكتاب، وهو الأمين عليه، فهل نصدِّقه فيه، ونكذِّبه في ما أوحي إليه به لينقله بلسانه وإقراره؟
ثالًا - إن الله تعالى يقول  في كتابه الذي تؤمنون به: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7] ". والإيمان بالآية يعني الإيمان بالحديث الصحيح المتواتر، والعمل بمقتضاه فرض.
رابعًا - إنه الله تعالى يقول: {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ  وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}. [البقرة:228] ويقول: {بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ}. [النساء:34]، وعلى أي حال تفضيل الرجال على النساء في الخلق درجة واحدة لا مئة درجة، ولا يعني منطوق الآية أنّ كل رجل أفضل من كل امرأة، ولا يعني التفضيل أنّه خير منها، فـ(الأفضلية تكليف لاتشريف)، ولذلك يترتب عليه الإنفاق، وهو الذي جعل الرجل قواما، أي راعيا لبيته وأهله، وحاميا لعرضه بِسُلطانَي القوة الجسدية والمالية، وقد فَرَّق لقرآن بوضوح بين الزوج والأمة.
ولوقال رب العِزَّة والجلال: إنّ للرجال على النساء مائة درجة لما كان لي  بصفتي امرأة إلا أنْ أقول: {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا  غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ}. [البقرة:285]. ولَعَدَدْتُ ذلك ابتلاءً واختبارًا لرضاي بحكم الله، وابتلاء للرجل بما خوله من فضل، واختباراً لتأديته المهمة الموكلة إليه من القوامة على وجهها الأكمل، لينظر: أيصبر كلانا ويرضى ويشكر أم لا.
خامسًا - قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ  وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا }.[الأحزاب: 36].
سادسًا -  قال تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}.[النساء: 65].
سابعًا - قال تعالى: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ  فَمَا جَزَاءُ مَن يَفْعَلُ ذَٰلِكَ مِنكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا  وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَىٰ أَشَدِّ الْعَذَابِ  وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ}.[البقرة: 85].
ومما أثار اندهاشي وحزني في الوقت ذاته أنني عندما أوردتُ آية الأفضلية (شاهدا ودليلا دامغًا) نزلت إليّ دكتورة محجبة من فوق المنصة وسألتني: دكتورة هل أنت متأكدة أن هذه آية وفي أي سورة؟!!
وتبيَّنَ بعد ذلك لي أنّ للدكتورة المحاضرة التي نزلت من فوق المنصة هارعة إليَّ حاصلة على الدكتوراه من كبريات الجامعات الأمريكيّة ولها (كُتبٌ عناوينها إسلامية ومضامينها شُبهات).
فيا أيها الضّالون المضلون، انزعوا أقنعة الإسلام من على وجوهكم، واكشفوا عن مضامين فكركم الحقيقي، واكشفوا للناس عن هُوياتكم، ولا تُفصِّلُوا الدِّين على أهوائكم، أيها الداجون المداجون، لاتهرفوا بما لم تعرفوا، ولا تدَّعوا أنكم من اكتشف حقيقة الإسلام بعد ألف وأربعمائة سنة، وأي حقيقة هذه؟ حقيقة وحي يوحى، لا فلسفة تملى!
لقد تبصَّرت في أولئك الداجين المضلين فوجدتهم قد خرجوا من شقوق العتمة والجهل، فعلموا شيئا من علم الدنيا واقتاتوا على فتيتات منه، وخدمتهم الصدفة والتسلّق فظنوا أنهم قد عُمِّدُوا علماء وسدنة للفكر، فأمسكوا معاولهم وبدأوا يدقون أسافينهم في أساس البنيان،  ذلك البنيان الذي فات آباءهم وأجدادهم شرف الإسهام في بنائه بسيوفهم وأرواحهم وأقلامهم، فهان عليهم، ففسدوا وأفسدوا وادّعوا أنهم المصلحون، {أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَٰكِن لَّا يَشْعُرُونَ}.[البقرة: 12].

تعليق عبر الفيس بوك