وجهة نظر في تناول التّاريخ العماني..

د. محمد بن قاسم ناصر بوحجام
رئيس جمعيّة التّراث، القرارة، الجزائر

 

تاريخ عُمان كبير بإنجازاته الحضاريّة، وقديم في بداياته العميقة المتجذّرة في الزّمان الغابر، وعظيم بالقواعد والأسس المتينة التي بني عليها في سيرورته وتحرّكاته وتطوّراته.. وهو أيضًا غريب وغير معروف؛ نتيجة تناسيه أو تناوله – في بعض الأحيان - بطرق غير سليمة، أو بمنهجيّة غير واضحة..
إنَّ منهجيّة كتابة التّاريخ العماني في حاجة إلى إعادة النّظر: في طريقة تسجيله، وفي كيفيّة روايته، وفي نقد مصادره المعتمد عليها بصفة عامّة، ومن حيث تقديمه، ومن حيث التّركيز فيه على أحداث معيّنة وعصور محدّدة، والتّغافل عن بعضها الآخر، ومن حيث الثّغرات الكثيرة الموجودة فيه، التي لم تملأ، بأيّ سبب من الأسباب..
كما يفتقر كثيرٌ مِـمّا كتبه المؤرّخون العمانيّون (تاريخا وسيرا وأحداثا) إلى التّحليل والمناقشة والاستنتاج، ومحاولة ملء الفجوات والثّغرات - وهو ما يُطلب من المؤرّخ -  كما أنّ هذا التّاريخ كتب – في معظمه – بطريقة أفقيّة، وليس بطريقة عموديّة؛ بربط حلقاته بعضها ببعض، أي اعتمد فيه أو لُجِئَ إلى طريقة السّير، والحديث عن قيام الدّول، منفصلة بعضها عن بعض. كما كان هذا التّناول مفتقرا – في  بعض موضوعاته - إلى الوثائق والشّهادات والمذكّرات. وكان يعتنى فيه – أحيانا – بالشّكل، على حساب  المضمون؛ كالتّركيز أو البقاء في دائرة الحديث عن التّولية والعزل والفتن والحروب والمكائد والمؤامرات، والتّنافس على السّلطة، واحتلال مناطق نفوذ، والقتل والنّهب والفساد... أهذا هو تاريخ عُمان؟ أهذه هي الحقيقة؟ أم أنّ مصادر التّاريخ الحقيقيّة فقدت؟ أم أنّ هناك قصدا لتوجيه الأحداث توجيها يحقّق أهدافا معيّنة؟ أو توجُّها لتشويه تاريخ عمان؟؟
إنَّ تاريخ عُمان سجّلَ حضارة: فكرًا وثقافة، وأوجد مقوّمات، وأنتج قيمًا، وقدّم خدمات للحراك الإنساني، في مختلف المجالات والميادين؛ من أجل حياة سويّة حقيقيّة، تسهم في التّطوّر والتّقدّم.. لكن أين هذه الجهود وهذه الأعمال؟ لماذا هي غير معروفة جيّدًا؟
وهناك أخطاء كثيرة سُجِّلَتْ في تناول تاريخ عُمان..؛ ما سبّب ضياعًا لكثير من حقائقه، وغياب تسجيل الحقيقة التّاريخيّة التي صنعها التّاريخ العماني عبر الحقب المتتابعة.. مثلا تدوين تاريخ النّباهنة في عمان..تنقصه الموضوعيّة كثيرًا، في عرضه وتحليله ونقده، وبيان مكانه ومكانته في مسار التّاريخ العماني..
إنّ تناول تاريخ الدّولة النّبهانيّة يختلف بين المؤرّخين والدّارسين العمانيّين وغيرهم. المؤرّخون والدّارسون العمانيّون ينطلقون – معظمهم – من أفكار مسجّلة مسبقا عن النّباهنة، وهي أنّهم ظلمة جبابرة وعتاة ومفسدون في الأرض...ومصادرهم تكاد تكون واحدة، لذا تكون نتائجهم التي يسجّلونها واحدة. كما يسلّمون أنّ النّاس أهملوا تاريخ النّباهنة؛ لأنّهم يكرهونهم؛ لهذا وجدت ثغرات كثيرة في رصد حياتهم. وربّما تعمّد بعضهم عدم ذكر جوانب من حياتهم، بخاصّة الإيجابيّة منها؛ خوفا من الخروج عن الإجماع. بينما انطلق الدّارسون غير العمانيّين في كتاباتهم متجرّدين من أفكار مسبقة، كما عدّدوا مصادرهم، ونوّعوا منابع كتاباتهم، وحاولوا ملءَ بعض الثّغرات، واجتهدوا في التّعليل والتّأويل. وربّما كتبوا من دون فهم الواقع العماني، الذي طغى عليه التّنازع والتّصادم. وربّما كان تقويمهم أو تفسيرهم لبعض الأحداث والواقعات غير صحيح.
ومن جهة أخرى عدم تأريخ المسيرة العُمانيّة عبر الزّمن، وعدم تدوين كثير من الحقائق، وعدم الانتباه إلى ضرورة كتابة هذا التّاريخ؛ بدافع الوطنيّة والحماسة لتاريخ مجيد، والاعتزاز به تاريخًا ناصعًا كبيرًا.. ثمّ عدم تقديمه للأجيال المتعاقبة بطرق سليمة وصحيحة ومنهجيّة – في كثير من الأحيان – أدّي إلى سطو الآخر عليه، ونسبة الفضل له، مع أنّ صانعي هذا التّاريخ هم عمانيّون..
ما نرجوه اليوم وليس غدا هو إعداد خطط جيّدة وعميقة المضامين، وبعيدة الأثر، وطويلة الأمد.. للتّعريف به، وخدمته بما يتناسب مع الرّوح الوطنيّة، وقواعد العمل المنهجي، وشروط البناء الحضاري للذّات.. هذا ما بدأنا نلمسه ونقرؤه في بعض الأعمال: ندوات ومعارض وتأليفات ولقاءات وتحرّكات على المستوى الرّسمي والشّعبي،  داخل السّلطنة وخارجها..نرجو أن يتواصل هذا العمل، فإنّ نتائجه بدأت تظهر للعيان وتتجسّد في الميدان..
وما نطلبه – أيضًا - هو التّناول الموضوعي للتّاريخ، والتّحلّي بروح النّقد والتّحليل والاستنتاج والمقارنة، والاستقلاليّة في الرّأي والتّمتّع بالشّجاعة في نقل التّاريخ ونقده، والتّميّز بالأمانة في تعريف الأجيال بتاريخهم، وإعطائهم الفرصة لمعرفة حقيقة ما جرى؛ حتّى يفيدوا منه، ويعتبروا به ومنه، فينطلقوا انطلاقة حسنة في بناء حياتهم وكيان بلدهم على أسس سليمة، تكون مشيّدة على الصّدق والوفاء، مرتكزة على السّعي لمعرفة الحقيقة، مستندة إلى مبدأ الإنصاف والعدل والنّزاهة، منطلقة من الرّغبة في  تطوير المسيرة وإغناء الوطن بالمنجزات التي تضمن لعُمان البقاء في مسار العمل الحضاري البنّاء، والاستمرار في التّميّز في نشاطها وإسهاماتها الكبيرة في الحراك الإنساني العالمي.

تعليق عبر الفيس بوك