تشكيل ثقافة المجتمع

مازن الغافري

التاريخ

لكلِّ مجتمع ذاكرة تجسِّد ماضي خيره، وشره، وكل مجتمع يحاول أن يدلل على وجوده القديم، ويثْبِتهُ من خلال التاريخ، الذي هو في الحقيقة يحكي قصة حضارة ما نشأت في زمن ما، وارتبطت بمن أنشأها مشكلة نهج حياة يستمد منها المجتمع قوة، وجوده في حاضره المعاش. ذلك التاريخ الذي ربما كان في يوم ما واقعا حقيقيا، وربما كان مختلقا في بعض من الأحايين؛ أما بغية مجدٍ مزعوم، وأما لإثبات نظرية يريد المجتمع أن يمررها،  وحشد الرأي العالمي حوله.

فكم من المجتمعات تغنت بمجدها الآفل القديم؛ مستحضرة ذلك المجد كقاعدة صلبة تنطلق منه نحو حاضر عظيم، وكم من المجتمعات تغنت بالماضي التليد جارة الماضي معها للحاضر دافنة رأسها فيه كلما حاصرها خطب في حاضرها فتحت دساتير تاريخها مستحضرة له معجبة وجابرة به لخاطر حاضرها، وكم من مجتمع نشأ لا ذاكرة له لا تاريخ، فصنع لنفسه حاضر يبارز به كل من يتغنى بماضيه العتيق.

لا شك أن للتاريخ دورا في بناء، وصياغة ثقافة أي مجتمع؛ ذلك أنه أحد أهم مكونات أيديولوجيته، ومؤسس لنهجه الحياتي العام من خلال الموروثات الفكرية، والفنية، والعادات، والتقاليد التي نشأ عليها ذلك المجتمع، وصبغته بصبغة خاصة مختلفة عن المجتمعات ذات الموروثات المختلفه، وربما لن أبالغ إن قلت بأن التاريخ يدفع المجتمع إلى أن يشكل، أو يكون له سيكيولوجيته الخاصة التي يتعامل بها مع شتى المواقف والتحديات التي تواجهه على مر الزمن؛ ذلك أن التاريخ هو مخزون من الخبرات، والمواقف التي تشكلت على مر العصور من أفعال وردود أفعال المجتمع حول مواقف الحياة المختلفة: إما إيجابا، وإمَّا سلبا، ففي كثير من المجتمعات تجد أن لها صفة معينة، أو سلوكا معينا عرف عنها مُتصل بتاريخ جغرافية ذلك المجتمع، حتى إنَّ الرحالين الذين جابوا العالم مدونون كل مشاهداتهم؛ كثيرا ما كانوا يبينون ذلك من خلال إظهار الأخلاق العامة له، فتجد بعض المجتمعات تتصف بالخشونة في أغلب تعاملاتها الإنسانية، وتجد البعض الآخر يظهر عداوته وكرهه لمجتمع آخر بناء على وقائع، وأحداث تاريخية، وربما على اعتبارات عرقية، أو دينية، أو مذهبية.

إنَّ من المؤكد أنَّ التاريخ ليس فقط وقائع، وأحداثا حقيقية، وإنما أيضا هنالك موروثات فكرية ماورائية كان لها الدور الكبير في صياغة توجهات المجتمعات سواء على الصعيد المادي، أو الروحي، وهنا لن أنسى الحكايات والأساطير التي مررت عبر التاريخ مُشكِّلة إرثا ثقافيا يكاد يكون مهيمنا على المجتمع مشكِّلاً من خلاله وجهة نظره نحو الحياة، والوجود. لا سيما في الأمور التي يعجز العقل البشري عن تفسيرها، وهي عادة ما تمثل القيم الفكرية العليا لدى أي مجتمع. كما أن الوقائع التاريخية المؤججة للصراع الاجتماعي والتي تحاول بعض المجتمعات تمريرها لأجل إثبات صحة ما تذهب إليه من معتقدات تجعل المجتمع منغمسا في حالة من التوجس، وعدم تقبل لوجهات النظر الأخرى، والتي في العادة تتعامل معه كندٍّ يجب إلغاؤه، والتخلص منه.

إنَّ التعاملَ مع التاريخ بالعاطفة، والذي هو الواقع المعاش لدينا كمسلمين يجعل من التاريخ "همًّا" جاثما يؤرق المجتمع، فهو يجد نفسه أمام معضلة مرتبطة بالدين، فبحسب اختلاف مذهبه يختلف التاريخ، وبحسب اختلاف فكره الديني تختلف قراءته للتاريخ، مما ينشئ صراعا اجتماعيا في الحقيقة غير مُبرَّر، ولا يفضي إلا للمزيد من التفكك، والتراجع الفكري، فهو يدور حول اللاشيء المفضي للا شيء. فكم محكمة أقيمت، وتُقام، وستقام لشخصيات تاريخية طواها الدهر بين سجلاته؛ على أن التاريخ من وجهة النظر الإسلامية ما هو إلا محطات نقف معها لأخذ العبر، والتفكر، والتدبر فيما كانت عليه حال الأمم، وما آلت إليه دون أن نكون قضاة حاكمين في مصائرها الأخروية يقول الله تعالى: "تِلْكَ أُمَّة قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ".

... إنَّ دراسة النظريات التاريخية، وفهم التاريخ فهمًا مقصوداً منه تشكيل صيغة لثقافة مجتمع؛ تدفعه نحو التطور، والنماء الإنساني، والتسامح، وغرس السلام، هو الأمر الذي يفترض أن نعمل عليه؛ ذلك أن التاريخ يزخر بالوقائع، والعبر التي من شأنها لو فهمناها وتعاملنا معها لتجنبنا الكثير من المعضلات التي ما زلنا ندور حولها، ونقع فيها.. يقول هنري كسينجر: "إن التاريخ هو ذاكرة الأمم، أو معمل كبير لتجارب البشرية؛ يحفل بمعادلات النجاح لمن يحسن صياغتها".

فلا بد لنا من دراسة التاريخ دراسة نقدية فاحصة، وغربلته من الأفكار التي أُدخلت عليه عنوة، وتصفيته من الشوائب المغرضة التي علقت به، ذلك أن التاريخ على مر العصور قد لحقه التغيير والتحريف إما لأغراض سياسية وإما دينية اجتماعية؛ كما علينا أن ندفع به -أي التاريخ- نحو ما يخدم المجتمع والبشرية جمعاء.

تعليق عبر الفيس بوك