الجمعيات التعاونية.. وخطوطها الحُمر!

د. عبدالله باحجاج

هل هُناك فعلاً خطوط حُمر على إنشاء الجمعيات التعاونية في بلادنا، أم هواجس، أم أنَّ اقتصاد بلادنا الريعي لم يفتح القناعات السياسية نحو ضرورة الجمعيات التعاونية؟ وهل لا تزال قائمة حتى الآن؟ نطرح مثل هذه التساؤلات بعد نقاشات خاصة جمعتنا بنُخب اقتصادية وفاعلين اجتماعيين مُؤخرا، دارت حول مستقبل المجتمع العُماني ومآلاته الايجابية والسلبية في عصر الضرائب المقبل، الذي سيرى النور بالتدريج منذ العام 2018، وقد سادت فكرة الخط الأحمر بصورة مُطلقة، فهل هو كذلك؟ بمعنى أدق: هل لا يزال خيار سياسي أم هاجس من الماضي؟

من خلال مُتابعتنا لسياقات التطورات السياسية في بلادنا العام 2011، فإنَّ هذا الخط -إنْ كان موجودا- قد تمَّ تجاوزه من المنظور السياسي؛ وذلك عندما أمر عاهل البلاد -حفظه الله ورعاه- الحكومة بدارسة إنشاء إقامة الجمعيات التعاونية في بلادنا، فأين هذه الدارسة؟ حاولنا البحث، لم نجدها، فهل يعقل أن الحكومة لم تنتهِ منها رغم مرور أكثر من ست سنوات على الأمر السامي، أم أنها موجودة لكنها لم تُنشر؟ ومهما يكن، فإنَّ الأمر السامي، يفتح ملف الجمعيات التعاونية منذ ذلك التاريخ، استشرافا مسبقا من لدن جلالته، لما تمر به بلادنا الآن من تحولات كبرى في دور الدولة، الذي يجنح نحو مزيد من غلِّ يد الحكومة في الاقتصاد من جهة، ورفع دعهما عن المجتمع بصورة تدريجية من جهة ثانية، وهنا يبدو لنا أنَّ هناك قصورا في فهم البعد السياسي للأمر السامي؛ لأن الجمعيات التعاونية، تظهر لنا في هذه المرحلة الآن، كحتمية وطنية ودستورية وسياسية؛ وذلك لما لمثل هذه الجمعيات من أدوار اقتصادية واجتماعية في التنمية والأنشطة الاجتماعية، قد أصبحت الآن -أي هذه الأدوار- تمس الوجود المجتمعي، وهنا تسقط كل الخطوط التي يظن البعض أنها قائمة، والإصرار على بقائها سيؤخِّر مُواجهتنا للتحديات المقبلة التي ستكون فوق قدرات وإمكانيات المجتمع في عصر الضرائب الذي تتقاطع معه سلبًا تداعيات السياسات المالية والاقتصادية التراكمية، خاصة منذ منتصف العام 2014.

ففي العام 2011، فوَّتنا فرصَ المواجهة، فهل سنفوتها الآن؟ هنا منطقة وعي سياسي نحاول النفاذ إليها، للوصول إلى القناعات السياسية بحتمية الجمعيات التعاونية في كل محافظة من محافظات البلاد، وفروعها الممتدة في كل ولاية داخل المحافظة الواحدة، فأهميتها تكمن في أنَّ التعاونيات تقدِّم نموذجا آخر للاقتصاد، وهو الاقتصاد التعاوني ثنائي الاستهداف، وهما: الإنتاجية والمسؤولية الاجتماعية، على عكس الاقتصاد الرأسمالي الذي كل همه الربح المطلق، وقد لجأت إليها الدول الغربية الرأسمالية بعدما عانت من تداعيات الرأسمالية المتوحشة التي أكلت الأخضر واليابس لصالح أقلية محتكرة. وبذلك، عدَّلت الدول الرأسمالية كِفة التوازن؛ بحيث أصبحت الجمعيات التعاونية تقدِّم نفسها من منظور الدفاع عن مصالح المستهلكين والمنتجين الصغار، وأنها تُتيح للطبقة الفقيرة من المواطنين فرصة المساهمة في بناء المستقبل، وتمكينهم من حماية أنفسهم ضد منافسة الشركات متعددة الجنسيات، وقد أصبحت الآن -وفق المصادر المتعددة التي اطلعنا عليها- الأكثرَ تحقيقا للأرباح، وتتركز في الدول الصناعية مثل فرنسا والولايات المتحدة وألمانيا وهولندا وإيطاليا، إلا أنَّ الخمسين سنة الماضية شهدتْ انتشاراً واسعاً لهذا النموذج التجاري في أماكن مختلفة من العالم، خاصة في البلدان النامية التي تقع في جنوب الكرة الأرضية -وفق تلك المصادر.

ووِفقاً لمصادر منظمة العمل الدولية، توفِّـر التعاونيات في جميع أنحاء العالم، فرص عمل تزيد بنسبة 20% عمَّا توفره الشركات متعدِّدة الجنسيات، كما تعتبر التعاونيات في بلد كسويسرا، المانح الرئيسي لفرص العمل، ضمن قطاعها الخاص، ويزيد تعداد الجمعيات التعاونية فيها على 9600 تعاونية، ويُسهم أكثر من نصف السكان في سلسلتَـيْ محلات السوبر ماركت "كوب" و"ميغرو" اللذين يستحوذان على أكثر من 50% من سوق التجزئة في سويسرا، هذا إضافة إلى مصرف رايفايزن، الذي لديه نحو 1.7 مليون مُساهم، وقد تجاوزت عائداتها في السنوات الأخيرة التريليون يورو من خلال عملها في القطاعات المختلفة -وفق المصادر نفسها- هكذا تظهر لنا الجمعيات التعاونية، كاقتصاد موازٍ، يخدم الطبقتين المتوسطة والفقيرة في المقام الأول، وله نتائج اجتماعية كبيرة -سنتناولها في مقال إلكتروني بعد غد الأربعاء- والمدهش هنا، تبنيه من قبل الدول الغربية الرأسمالية دون أن يثير حفيظتها تنافس الاقتصاديين داخل بيئة واحدة، أو أن تغتاله اللوبيات الاحتكارية.

فهل نجدُ للجمعيات التعاونية شرعية دستورية في بلادنا بعدما أوضحنا شرعيتها السياسية وحتميتها الوطنية؟ بالرجوع إلى المادتين (11) المتعلقة بالمبادئ الاقتصادية، و(12) الخاصة بالمبادي الاجتماعية، نجد فيها تأصيلًا عصريًّا يُشَرْعِن الجمعيات التعاونية؛ فالمادة الأولى تنصُّ تحديدا على الآتي: الاقتصاد الوطني أساسه العدالة ومبادئ الاقتصاد الحر، وقوامه التعاون البناء المثمر بين النشاط العام والنشاط الخاص، وهدفه تحقيق التـنمية الاقتصاديـة والاجتماعية بما يؤدي إلى زيادة الإنتاج ورفع مستـوى المعيشـة للمواطنين وفقا للخطة العامة للدولة وفي حدود القانون. والمادة الثانية تنص في أول فقرتيها على الآتي: العدل والمساواة وتكافـؤ الفرص بين العُمانيين دعامات للمجتمع تكـفلها الدولة، والتعاضد والتراحم صلة وثقى بين المواطنين، وتعزيز الوحدة الوطنية واجب. وتمنع الدولة كل ما يؤدي للفرقة أو الفتنة أو المساس بالوحدة الوطنية.

إذن، نخرج مما تقدم بأهم نتيجة دستورية -النظام الأساسي للدولة- وهى شرعنة الاقتصاد الاجتماعي في موازة الاقتصاد الرأسمالي، أسوة بما هو حاصل في الغرب، وأن هذا حقٌّ من الحقوق الاجتماعية الضامنة للاستقرار الاجتماعي في ظل التحول لدور الدولة سالف الذكر.

وماذا يعني ذلك؟ يعني أنه لابد للحكومة أنْ تشجِّع وترعي قيام الجمعيات التعاونية المختلفة، بما فيها الاستهلاكية، وأن تزيد من رقعتها الجغرافية والجهوية، وأن تنظم نشاطاتها بتشريعات حديثة بسيطة في إجراءات التأسيس، ومحكمة وحاكمة في الرقابة والعقاب؛ وذلك لضمان عدم خروجها عن المبادئ التعاونية، مثال للخروج هنا: تدخلها في السياسة والدين...إلخ، ومثل هذه السلبيات يجب أنْ تتصدَّى لها وزارة التنمية الاجتماعية واتحاد الجمعيات التعاونية الذي يعدُّ ضرورة في حالة تبني خيار الجمعيات في البلاد، ولا ينبغي أن تكون هذه السلبيات مُبرِّرا لاستمرار الخطوط الحمر؛ لأنها سلبيات قد تحدث كذلك حتى في الشركات؛ وبالتالي لا ينبغي أن تشكل مبررا لبقاء الخطوط الحمر أو الهواجس بعد التحول من الاقتصاد الريعي إلى الاقتصاد الجبائي؛ وذلك للعواقب السلبية الكبيرة الناجمة عن غلِّ يد الحكومة في المجال الاقتصادي ورفع يدها عن الدعم الاجتماعي، وإثقال كاهل المجتمع بالضرائب، مقابل إطلاق يد الرأسمالية كلاعب أَوْحَد يتحكم في حياتنا الاقتصادية والاجتماعية.

فهل وصلت رسالتنا إلى القناعات السياسية؟ إذن، أزيلوا كل التحفظات عن الجمعيات التعاونية، بعدما انتفت مُبرِّرات عدم إنشائها، واجعلوها تنطلق من كل محافظة إلى الولايات التابعة عبر فروعها، هذا هو خيارنا الوطني لمواجهة تحديات عصر الضرائب والعولمة.