سؤال في التفسير

وقفة لغوية وبلاغية مع آية قرآنية (4)

أ.د/ سعيد جاسم الزبيديّ


لقد أغرى جوابنا المتقدِّم والذي أفضنا فيه القول على مدار ثلاث حلقات كاملة ذلك الطالب المتابع أن يعود ليسألني مرة أخرى، لا قناعة بما ذهبنا إليه من رأي، وإنما بما تحقق عنده من خطوات منهجية في الوصول إلى إدراك فهم آخر لآيات لم يُقنع تفسيرها القارئ,فكأن له السؤال عن الآيات الكريمات :(89,88,87,86)من سورة (المؤمنون) فيقراءة المصحف :﴿قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيْمِ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيْرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ﴾. فقال:ما السر وراء قوله تعالى :( لله) جوابا على (من)؟ فقلت :لننظر إن ورد مثلها في (القرآن الكريم) على شاكلة هذا الأسلوب؛ أي وقوع (مَنْ) الاستفهامية بعد (القول) ,وجوابها ,جريا على المنهج في الاستقراء ,وضم النظير إلى النظير.
لقد كفانا ذلك الشيخ محمد عبدالخالق عضيمة (ت1404هــ),فذكر في كتابه الفذ (دراسات لأسلوب القرآن الكريم –طبعة دار الحديث /القاهرة,القسم الأول –الجزء الثالث ,الصفحات :273-322) أن هذا الأسلوب ورد في المواضع الآتية: من سورة الرعد, الآية16: ﴿قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُلِ اللهُ﴾، وفي سورة يونس الآية 31: ﴿قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الحَيَّ مِنَ الْمَيِّتَ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللهُ﴾، وفي سورة الإسراء,الآية 51:﴿...فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَاقُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْأَوَّلَ مَرَّةٍ﴾، وسورة (المؤمنون), الآيات 89,88,87,86,85,84: ﴿قُلْ لِمَنِ الأَرْضُ وَمَنْ فِيْهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْأَفَلَا تَذَكَّرُونَ قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيْمِ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْأَفَلَا تَتَّقُونَ قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيْرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِإِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ﴾، وسورة سبأ, الآية 24 : ﴿قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ والْأَرْضِ قُلِ اللهُ﴾، وكذلك سورة التحرير, الآية 3 :﴿قَالَتْ مَنْأَنْبَاكَ هَذَا قَالَ نَبَّانِيَ الْعَلِيْمُ الْخَبِيْرُ﴾، وسورة الأنعام ,الآية 12: ﴿قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ﴾
فأنت ترى – يا ولدي أن هذه المواضع - عدا سورة (المؤمنون) – جاء الجواب على (مَنْ) بما يقتضيه معناها الاستفهامي الذي وصفه النحاة, وحددوا إعرابها وإعراب خبرها في ضوئه , ونسوق من ذلك مثلا: قال الهروي (ت415هــ): "باب أقسام من ...وتكون استفهاما كقولك: من أبوك ؟ومن كلمك؟ وما أشبه ذلك , فـ(من) مبتدأ وما بعدها خبرها".
وقال أبو البقاء العكبري (ت616هـ) : "واعلم أن (من) يستفهم بها عن تعيين المسؤول عنه كقولك : من عندك؟ فتقول زيد"، وقال ابن يعيش (ت643هــ):"قال الشارح: اعلم أن (من) اسم مبهم يقع على ذوات ما يعقل"،وقال ابن مالك (ت672هــ): "الأكثر في جواب الاستفهام بأسمائه: مطابقة اللفظ والمعنى, وقد يُكتفى بالمعنى في الكلام الفصيح ,فمن مطابقة اللفظ والمعنى قوله تعالى ﴿قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون سيقولون لله﴾, وكذا بعد (من ) الثانية و الثالثة (سيقولون ا لله) وهي قراءة أبي عمرو, ومن مطابقة المعنى وحده قوله تعالى: (سيقولون لله) بعد (من) الثانية والثالثة في قراءة غير أبي عمرو"(3). فابن مالك هو النحوي الوحيد الذي صرّح بأنه قد يُكتفى بالمعنى جوابا على (من) في الكلام الفصيح ؛لأنه أدرك سر العدول في جواب (من) بــــــ (لله).
رسم المصحف والقراءة:
نتابع طريقتنا في البحث,ونسأل:هل وردت الآيات موضوعة السؤال في جميع المصاحف هكذا ؟ وهل قرئت بغير هذا الوجه؟
وجدنا في المصادر التي وُفِّقنا في الوقوف عليها أنها أجمعت على ورود تلك الآيات في مصاحف:الحرمين, والشام,والكوفة,قد رسمت باللام : (لله ,لله), وقرأهما الجمهور موافقة للرسم, ووردت في مصحف أهل البصرة بألف الوصل (الله) وبها قرأ عمرو بن العلاء (ت154هـ) , ويعقوب بن إسحاق الحضرمي(ت205هـ) وآخرون موافقة لرسم مصحف أهل البصرة.
وليس لنا أن نبحث في قراءة أبي عمرو ويعقوب,ولا في رسم مصحف أهل البصرة؛ لأنهما جاءا جوابا على ما يوجبه لفظ(مَنْ) ومعناه الاستفهامي بما يتفق وصورتها في المواضع الأخرى ,لأننا نحاول الكشف عن سر عدول الآيات التي وردت في سورة (المؤمنون ) عما شاع من استعمالها ,ومحاولة تفسيرها بما يتوافق ورسم الصحف العثماني وقراءته.
الرأي السائد:
نعرض الآن ماذا قال أصحاب معاني القرآن وتفسيره وقراءاته وإعرابه: كتب معاني القرآن وتفسيره وقراءاته على وفق الترتيب التاريخي؛ فقد قال أبو زكريا الفراء (ت 207ه) :" أهل البصرة يقرؤون الآخرين(الله،الله) وهو في  العربية أبين لأنه مردود مرفوع،ألا ترى أن قوله تعالى (قل من رب السموات ) مرفوع لا خفض فيه ، فجرى جوابه على مبتدأ به ... والعلة في إدخال اللام في الأخريين في قول أُبيّ وأصحابه أنك لو قلت لرجل :من مولاك ؟ فقال : أنا لفلان.كفاك من أن يقول : مولاي فلان .فلما كان المعنيان واحدا أُجري ذلك في كلامهم".
فالفراء أول من قال إن المعنى واحد ،وسار هذا الرأي بعده. أما أبوعبيدة(ت210ه)في مجاز القرآن، والأخفش الأوسط(ت 215ه)في معاني القرآن ،وابن قتيبة (ت276ه) في (تأويل مشكل القرآن)فلم يقفوا عند هذه الآيات، وقال الطبري (ت310ه)في تفسيره:"يقول تعالى ذكره لنبيه محمد (صلى الله عليه وسلم):قل لهم يا محمد : من رب السموات السبع العرش المحيط بذلك؟ سيقولون:ذلك كله لله وهو ربه...وقد اختلف القراء في قراءة قوله: (سيقولون لله )،فقرأ ذلك عامة قرّاء الحجاز والعراق والشام (سيقولون لله)،سوى أبي عمرو فقرأه(الله)في هذا الموضوع، وفي الآخر الذي بعده.
فأما الذين قرؤوه بالألف فلا مؤونة في قراءتهم ذلك كذلك ،لأنهم أجروا الجواب على الابتداء وردوا مرفوعا على مرفوع ، وذلك أن معنى الكلام على قراءتهم:قل من السموات السبع ورب العرش العظيم؟سيقولون رب ذلك كله الله. فلا مؤونة في قراءة ذلك كذلك.وأما الذين قرؤوا ذلك في هذا والذي يليه بغير ألف ،فإنهم قالوا:معنى قوله (قل من رب السموات )لمن السموات؟ لمن ملك ذلك ؟ فجعل الجواب على المعنى، فقيل: لله؛لأن المسألة عن ملك ذلك لمن هو؟ قالوا: وذلك نظير قول قائل لرجل: من مولاك؟ فيجيب المجيب عن معنى ما سئل،فيقول: أنا لفلان ،لأنه مفهوم بذلك من الجواب ما هو مفهوم بقوله:مولاي فلان . وكان بعضهم يذكر أن بعض بني عامر أنشده
وأعلمُ أنني سأكون رمساً                     إذا سار النواجعُ لا يسيرُ
فقال السائلون لمن حفرتم؟             فقال المخبرون لهم : وزيرُ
فأجاب المخفوض بمرفوع ، لأن معنى الكلام :فقال السائلون: من الميت؟ فقال المخبرون: الميت وزير،فأجابوا عن المعنى دون اللفظ". فالطبري كرر رأى الفراء بتفصيل أكثر وزاد عليه شاهدا شعريا, وكتب لهذا الرأي السيرورة عند اللاحقين ولم يزيدوا إلا في الشاهد أو المثال , وصياغة العبارة.
وقال الزجاج (ت311هـ) :"هذه (لله) – يعني آية : قل لمن الأرض ..- لا اختلاف بين القراء فيها و لو قرئت (الله) لكان جيدا,فأما اللتان بعدها فالقراءة فيهما (سيقولون الله ) فهو على جواب السؤال إذا قال (من رب السموات السبع) فالجواب الله وهي قراءة أهل البصرة ,ومن قرأ (لله) فجيد أيضا لو قيل : من صاحب هذه الدار؟ فأجيب :زيد , لكان هذا جوابا على لفظ السؤال ,ولو قلت في جواب : من صاحب هذه الدار ؟ لزيد , جاز, لأن معنى من صاحب هذه الدار ؟ لمن هذه الدار؟" وتصرف الزجاج في المثال إلا أنه وافق الفراء و الطبري في الرأي! وقال أبو جعفر النحاس (ت338هـ):"فمن قرأ (سيقولون الله)جاء بالجواب على اللفظ, ومن قرأ (سيقولون لله) جاء به على المعنى كما يقال: لمن هذه الدار؟ فيقول:لزيد, على اللفظ, وصاحبها زيد على المعنى"، وزاد النحاس هنا مثالا فتأمله. وقال ابن خالويه (ت370هـ): "...فالحجة لمن قرأها بلام الإضافة : أنه رد آخر الكلام على أوله فكأنه قال: هي لله, ودليلهم أنهما في الإمام.
......................................
المراجع:
(1)    الهروي: الأزهية في علم الحروف، ص100.
(2)    أبو البقاء العكبري: المتبع في شرح اللمع، تحقيق عبدالحميد حمد الزوّي، منشورات جامعة قار يونس، ليبيا، ط1، 1994م، 2/702.
(3)    ابن يعيش: شرح المفصل، مكتبة المتنبي، القاهرة، د.ت، 4/10.
(4)    مهدي المخزومي: في النحو العربي نقد وتوجيه، ص264. وينظر: سمير شريف ستيتة: الشرط والاستفهام في الأساليب العربية، 2000م، ص98.
(5)    ينظر في ذلك: الفراء: معاني القرآن، تحقيق محمد علي النجار، دار السرور، د.ت، 2/240. الطبري: جامع التبيان عن تأويل آي القرآن، ضبطه صدقي جميل العطار، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة، ط1،2001م، 2001م، 10/56. النحاس: معاني القرآن، تحقيق محمد علي الصابوني، 4/481. ابن خالويه: الحجة في القراءات السبع، تحقيق أحمد فريد المزيدي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1999م،  ص158. الطوسي: التبيان في قراءة القرآن، تحقيق أحمد حبيب العاملي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1962م، 7/389. الزمخشري: الكشاف، 4/246. الطبرسي: مجمع البيان في تفسير القرآن، تحقيق السيد هاشم الرسولي المحلاتي، والسيد فضل الله اليزدي الطبطبائي، دار المعرفة، بيروت، ط1، 1986م، 7/182. الفخر الرازي: مفاتيح الغيب، 8/290. أبو حيان الأندلسي: البحر المحيط، 6/418. ابن الجزري: النشر في القراءات العشر، تصحيح علي محمد الضباع، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، بيروت، د.ت، 2/392. السيوطي: الدر المنثور في التفسير بالمأثور، مطبعة الأنوار المحمدية، القاهرة، 5/15-16. الدمياطي: إتحاف فضلاء البشر في القراءات الأربعة عشر، وضع حواشيه وعلق عليه أنس مهرة، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، ط1، 1998م، ص405. أحمد مختار عمر وعبدالعال سالم مكرم: معجم القراءات القرآنية، مع مقدمة عن القراءات وأشهر القراء، عالم الكتب، القاهرة، ط3، 1997م، 3/341.
(6)    الفراء: معاني القرآن، 2/240.
(7)    الطبري: جامع البيان عن تأويل آي القرآن، 18/56.
(8)    الزجاج: معاني القرآن وإعرابه، 4/20.
(9)    النحاس: معاني القرآن، 4/481.
(10)    يقصد المصحف العثماني

تعليق عبر الفيس بوك