حتى نضمن بيئة سياسية صالحة لأجيالنا القادمة (1)

د. راشد البلوشي

في خِطَابه التاريخيِّ الأول عام 1970، قال جلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظَّم -حفظه الله ورعاه: "أيُّها الشعب... سأعملُ بأسرع ما يُمكن لجعلكم تعيشون سعداء لمستقبل أفضل". ومنذ ذلك الحين، وجلالته يعمل بشتى الطرق والوسائل من أجل إيجاد أسباب الاستقرار السياسي، والتنوع الاقتصادي، والعدالة الاجتماعية، والعيش الكريم، وتوطيد مبادئ العدل والمساواة بين أفراد الشعب العماني، مُؤمنا بأنَّ ذلك هو السبيل الوحيد حتى يكون العُمانيون أقوياء مُحصَّنين ضد أسباب العدوان الخارجي والهدم الداخلي؛ وذلك حتى يستعيد العُمانيون دورهم المحوري الفاعل في المنطقة العربية والعالم.

فعلى الصعيد الخارجي، عمل جلالته على تجنيب عُمان وشعبها الدخول في تحزبات وصراعات كثيرة؛ حيث تبنَّى جلالته سياسة ناجحة عملت على "تأكيد أواصر الصداقة مع جميع الدول والشعوب، على أساس من الاحترام المتبادل، والمصلحة المشتركة، وعدم التدخُّل في الشؤون الداخلية للدول، والسعي لحل المنازعات بالوسائل السلمية، ومراعاة المواثيق والمعاهدات الدولية وقواعد القانون الدولي المعترف بها".

ولا نُبيح سرًّا إذا قُلنا بأنَّ بعض الأطراف حاولتْ أنْ تُؤثِّر في مواقف السلطنة حيال بعض القضايا والصراعات في المنطقة العربية؛ من خلال إدخالها في تحالفات وتحزبات مُختلفة. ونعلم جميعا أنَّ كلَّ هذه المحاولات باءتْ بالفشل. وذلك لأنَّ مواقف السلطنة تقوم على مُرتكزات سياستها الخارجية الثابتة. ومن أسباب فشل محاولات تغيير مواقف السلطنة والدخول بها في تحالفات ومحاور تستهدف تغيير الواقع السياسي والاجتماعي العربي: أنَّ القيادة السياسية للبلاد علمتْ يقينا أنَّ التعرُّض بالمؤامرات والحرب والعنف ضد الآخرين سينتُج عنه عُنف وإرهابٌ من الآخرين ضد أبناء الشعب العُماني ومصالحهم (ذلك لإيمان القيادة الحكيمة بأنَّ المكر السيئ لا يحيق إلا بأهله). والنتيجة التي نعرفها جميعا للثبات على الثوابت العُمانية هي بقاء السلطنة خارج تلك الصراعات؛ مما جنَّبنا ويلات تلك الصراعات والحروب.

وأمَّا على الصَّعيد الداخلي، فقد آمَن جلالتُه بأنَّ بلادَه ستظل قوية ضد مطامع الخارج طالما حافظ عليها هو قوية، وحصَّنها من فتن الداخل (ونقصد هنا الاختلاف والفرقة). وبمعنى آخر، فإنَّه علم أنَّه إذا حافظ على أبناء شعبه متوحِّدين مُتفاهمين مُتعاونين ينعمون في خيرات الوطن، ويسود بينهم العدل فإنَّه من الصعب أن تستطيع قوة خارجية التغلب عليهم. وهذا الكلام ليس من نسج الخيال أو هو أمانٍ نمني النفس بها، بل هو نتاج تجربة أحد أقدم شعوب الأرض. نقرأ ذلك في ما وصَّى به حمير بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان بنيه -وكانوا اثني عشر رجلاً- حيث قال: "يا بني، ما اجتمع اثنان متآزران متعاضدان على أربعة نفر أو خمسة من أشتات الناس إلا غلباهم وملكا أسرهم وقيادهم، وما اجتمع خمسة نفر متآزرون متعاضدون على عشرة أنفار من أشتات الناس إلا غلبوهم وملكوا أسرهم وقيادهم، وما اجتمع عشر أنفار متآزرون متعاضدون على الجماعة التي يكون ميلهم عدد أوزان الأنفس من أشتات الناس إلا غلبوهم وملكوا أسرهم وقيادهم. وأيُّما عصابة غلبت أربعين رجلاً يُوْشك لها أن تغلب الثمانين والمائة وما فوق ذلك، وغُلَّاب المائة حريُّون أن يغلبوا المائتين. وغلاب المائتين حريون أن يغلبوا الألف. ومنتهى العز للفرقة أن لا يطمع فيها الألف ألف رجل. وما من رجل أطاعه رجل فقام بالمجازاة له على ذلك إلا أطاعه عشرة، وما من رجل أطاعه عشرة أنفار فقام بالمجازاة لهم على طاعتهم له إلا أطاعه مائة رجل، ومن أطاعه مائة رجل فقام لهم بالمجازاة على طاعتهم له إلا أطاعه ألف رجل، وما من رجل أطاعه ألف رجل إلا وقد ساد لا محالة...".

والعاملُ الآخر الذي جنَّب عُمان وشعبها ما آلتْ إليه بعضُ بلدان وشعوب المنطقة من صراعات وويلات وقلاقل، هو نجاح السياسة الداخلية التي انتهجها جلالته؛ حيث نجحتْ الحكومة في توفير أسباب العيش الكريم للمواطن العُماني. كان ذلك من خلال التدريب والتأهيل والتوظيف في القطاعين الحكومي والخاص، وكذلك من خلال توفير وسائل الحياة الكريمة للعمانيين من تعليم وصحة...وغيرها من الخدمات الأخرى. والسبب الآخر المهم هو استجابة الحكومة بطريقة إيجابية لتطلعات الشباب العماني في تصحيح بعض مسارات البناء ومظاهر التنمية في البلاد، فلم يُقمع ولم يُقهر وإنما مُكّن ومُنح الفرصة لإبداء الرأي والمشاركة في صنع القرار.. وللحديث بقية في الحلقات المقبلة.

تعليق عبر الفيس بوك