كُنْ كالبس.. لا يلدغ ولا يمس

حَمَد العلوي

"البس" نوعٌ من السَّحالي المسالمة، تعيش في ظلال الأشجار المرويَّة، أو في الأودية العامرة بأشجار الظل الكثيفة، ورُبَّما حاجتها للماء والبرودة خالفت في مزاجها طبيعة الضب؛ الأمر الذي جعلها تختار بيئة وادعة مريحة؛ فهي لا تؤذي البشر ولا تلدغ كالثعبان مثلاً، ولا تعضُّ كالضب، بل تتوارى عن الناس إذا اقتربوا كثيراً منها؛ لذلك أُتُّخذت كمثال للإنسان الوديع المُسالم، فيقال كـ"البس لا يلدغ ولا يمس"، وربما لا يكون هذا المثل مُنتشر في عُمان كلها؛ فمن باب أولى ألا يُتصوَّر انتشاره في الوطن العربي، وأصحاب هذه الوداعة المفرطة، والمشمولة بالكثير من السلبية والتدجُّن، تجدهم يترددون في إنجاز الأعمال، مخافة الخطأ ثم الانكشاف أمام المسؤول الأعلى؛ لذلك يفضلون التسويف والمماطلة، لعلَّ الأيام تتكفل بحل تلك المعضلات؛ لأنَّ هذا الصنف من الناس يعتبر كل عمل معضلة، ويُقصد بالعمل -في مفهومهم- تسيير الأعمال اليومية، أمَّا الإبداع والابتكار فهما من المحرَّمات حتى التفكير فيهما، ويعد تهوراً غير محمود العواقب.

إنَّ عَدم انتشار المثل في العالم العربي، لا يعني أنَّ وداعة هذه السحلية المسمَّاة محليًّا بـ"البّس" لا تنطبق على الكثير من الموظفين في كلِّ بلدان العرب، بل الخالدون في الوظائف معظمهم من فئة البسوسية الماكرة، فطالما يفيدون المسؤول وهم يستفيدون كذلك فبقاؤهم مفضل، فتجدهم يترقون ويتدرجون في الوظائف حتى العُليا منها، إذن انتشار هذا المثل في الوطن العربي حاصل بالتطبيق والممارسة الفعلية، بل يعززه انتشار الرشوة المباحة معه؛ وذلك تحت مسمى "الإكراميات"، ونحمد الله أنَّ الرشوة عندنا في بلدان الخليج لا تزال من تحت الطاولة وقد تكون أعظم، لذلك أوغر داء التخلف وتعمق في هذه الأمة، فقد أصبحت أمة العرب تعبُد المسؤول والمنصب، ولا تعبُد الله بالجد والعمل والاتكال عليه.

إذن؛ كُنْ بسًّا تعش دهراً في الوظيفة، حتى لو شكلت عائقاً في تقدُّم الوطن فلا بأس مع اعتناق البسوسية، ولا بأس أيضاً أنْ تكون منَفِّراً للمبدعين من المؤسسات، وطبعاً العمل لن يتوقف، وهذه مقولة صحيحة مائة في المائة، ولكن هناك فارق شاسع بين المُسيِّر للعمل اليومي، وبين من يعمل بإبداع، فتجده كل شهر بل كل يوم يحتفل بإنجاز جديد؛ لأن ذلك الموظف المبدع يحقق تطوراً وتقدماً في العمل، ولكن بخروجه من الوظيفة يتوقف الإبداع، وليس ذلك وحسب، وإنما يحطم "البّس" معنويات الآخرين، ويشل قدرتهم على الإبداع حتى لو صمدوا، إذن لا يظل هناك من قدوة قيادية تأخذ بيد الجيل الصاعد والرقي بهم، فتموت القيادات البديلة في مهدها، فينعم البس بطول البقاء في الوظيفة، فتضطر المؤسسة عند ذهاب البس منها، إلى استقدام بِسَسة لإدارة العمل من الخارج.

إنَّ حاجة الدول الناشئة إلى طريقة جديدة وجريئة، لكي تغير المسار وتصنع جيلاً جديداً من قادة الغد، جيلٌ يختلف تماماً عمَّن كان "بساً" مُسالماً يحبه الضعفاء، لأنه لا يكشف عورات فشلهم القاتل للهمم، لأنه مادام المحبطون (بكسر الباء) يمسكون بمفاصل القيادة، فإن العالم العربي سيظل عالة على الآخرين، ومصدر انعاش لمصانعهم وإنتاجهم، فلا عجب إن رأيت عربيًّا يُجرُّ كالنعجة لاستلام جائزة نوبل للإنتاج والتقدم الصناعي، طبعاً ليس لأنه فعل ذلك في وطنه، بل لأنه هو من دعَّم نشاط الآخرين بالخمول الذي بثه في وطنه، وأنعش في المقابل اقتصادات دولٍ أخرى، وأبعد عنها بغبائه ضررَ الكساد، فعلى سبيل المثال خلال السبعة الأعوام الماضية، اشتغلت مصانع الغرب بأقصى طاقتها في صنع السلاح، واشتغل تجارهم بالبيع دون حاجة للعرض والتسويق، وإذا توقفت الحروب لأي سبب ما، ستنشط مصانع أخرى لها علاقة في البناء والتشييد، لتعويض ما دمَّرُوه بسلاحهم، وبذلك يطبقون على العرب نظرية "كاسب كاسب"، وكلُّ ذلك ببركة البسسة البغمان من العرب الأفياء لغيرهم بلا سبب.

إذن؛ كُنْ بساً وأضف إليه صفة "البُغمة"، وواصل المشي تحت الجدار أو حتى داخله، ستنعم بالعيش دهراً في الوظيفة؛ أكانت هذه الوظيفة في القطاع العام، أو مبسبساً في القطاع الخاص؛ فالناس لا تريد وجع الرأس بنشاط وابتكارات، وخطط وأفكار غير مألوفة، ثم تقع بلدك تحت طائلة الحصار ككوريا وإيران، فالبسبسة تضمن للشخص المبسبس دخلاً كبيراً لم يكن يحلم به يوماً ما، ففي الوظيفة العامة ألبَس لبوس الوطنية والإخلاص، وستجد نفسك الآمر الناهي، والمتصرف الأوحد في المؤسسة، أما إذا كان في القطاع الخاص وبسبس لصاحب المؤسسة -هذا إن كانت تلك المؤسسة ملكه وليست تجارة مستترة- ففي كل الأحوال ينجح المبسبس إلا إذا شغَّل نفسه مخبراً على الموظفين الآخرين، وأخص الوطنيين الجادين منهم، وأظهرهم أنهم لا يهتمون بمصلحة الشركة أو المؤسسة، وأنهم يقولون عن الرئيس إنه "بغام" حتى وإن كان كذلك، وحتى وإن لم يقل شيئاً، فإن الحرب خدعة، فمن لا يقل ذلك، فإنه يحق للمبسبس أن يقل نيابة عنه، لأنهم إذا استمروا في العمل ونجحوا، حتماً سيسقط المبسبس في النفاق، ولن يلتقي أحدٌ الرئيسَ عند الباب، ويأخذ عنه الحقيبة ودلة القهوة.

... إنَّ الإعاقة الفكرية والخوف من الأقوياء، سيظل يكبُتْ الأجيال، خاصة النابغين منهم، وسينفِّر بهم من العمل ومن الوطن كله، وربما قرروا الهجرة إلى الخارج، وبهذا النهج سيُقضى على الجهود في تقدم الأمة، وعُمان على سبيل المثال، تحتاج إلى خطة تجديد لكوادر العمل، وذلك للنهوض بالوطن والاستمرار في زخم النهضة الحديثة، ونحتاج إلى شيء من الجرأة لكي نغير في الركود الذي تعيشه بعض المؤسسات، فلا يفاجئك عند زيارة مؤسسة من المؤسسات، عندما لا تجد تطوراً يُذكر إلا الابتكارات الحديثة في أنواع الأقفال الإلكترونية، التي تعقِّد الدخول على (جلالة الملك المسؤول) فتتولد في ذهن المواطن، أو طالب الخدمة عامة، إن اختراق تلك الأسوار الوهمية أو المصطنعة، لا يقوى عليه  إلا ذو واسطة قوية جدًّا.

وقد شمل هذا التَّحصين الأمني المشدد معظم المؤسسات العامة والخاصة، إلا عدداً قليلا من المؤسسة ظلت تنجز عملها بدون واسطة وبدون أقفال إلكترونية، ومن هذه القلة خدمات شرطة عُمان السلطانية، فهل من مُجيب يُعيد النظر في موضوع البسبسة والجمود، وضعف الإنتاج، والسعي إلى إشراك المواطن بالرأي في بعض الأمور الخدمية، وليس في رسم السياسات العليا للدولة، وهناك مقولة مأثورة لدى الجيوش تقول: "من يجرؤ ينتصر"؛ فها نحن نريد شيئًا من الجرأة في العمل لا عليه.