ثورات بلا هُويَّة

 

سُلطان الخروصي

يبدو أنَّ خارطة الطريق العربي نحو ديمقراطية المؤسسات المدنية، وخلق بيئة العيش الرغيد لإنسان القرن الحالي، أصبح واقعا ضبابيا، كما أنَّ تجميع قِطَع الصورة المُبعثرة لتكتمل في حُلَّتها الزاهية أصبح ضربا من الجنون، علاوة على أن الشعب العربي (رُبما) أصبح اليوم يحِنُّ بالعودة للمربع الأول، الذي شهد مرحلة كانت على ما يبدو أفضل حالا من الفوضى المستعرة سياسيا واقتصاديا وثقافيا وفكريا، ناهيك عن غياب البدائل الحقيقية النافذة، إثر انهيار النظام الحاكم القائم عقب كل "ثورة"!

بل إنَّ الأمر تعدَّى مَسألة الفوضى المؤسساتية، لنلِجَ نحو مُستنقعات الحروب الأهلية والحزبية والفئوية، كما هي الحال في سوريا وليبيا واليمن والعراق.. ويبقى السؤال الذي أشعل رأس المواطن العربي شيباً: هل فشلت ثورات الربيع العربي نحو الإصلاح وبناء المؤسسات المدنية الديمقراطية؟ فإنْ كان الجواب "نعم" فلماذا فشلت؟ وما هي ملامح الصورة القادمة للمنطقة؟

إنَّ المتتبعَ للتاريخ الحديث، وما أفضت إليه صيرورة الحقب البشرية، يجد أنَّ الثورات الشعبية غالبا ما تخلقُ مسارات مؤثِّرة نحو رسم معالم السياسة السويَّة بقيادات فذَّة تَخرجُ من صُلبِ الشارع المقهور؛ فتُسهم في تحديد مصير الدولة بما يحقق مصالحها العُليا، وإيجاد فرص حقيقية وواقعية نحو رسم معالم العدالة الاجتماعية، وبناء ثقافة التعدّدية الحزبية السياسية والفكرية الناضجة. ولنا في أوروبا الشرقية خير مثال، حينما كانت تطحنها أعتى الأنظمة الدكتاتورية المنغمسة في عُمق المحيط الأمني المُرهب؛ حيث كانت السلطة العُليا تمنح الشرطة السِّرية كل الصلاحيات الوحشية لتصفية أشباه المعارضين، وبناء مُدن أشباحٍ تضجُّ بمعتقلي الرأي من السياسيين والمعارضين والفنّانين والكُتاَّب والمحاميين. إلا أن ثورات أوروبا الشرقية كثورة 1989م أخرجت قادة يحملون إحداثيات واضحة لمنظومة الإصلاح والخروج من عُنق زجاجة الاضطهاد، وكذا الحال في أمريكا اللاتينية -وعلى رأسها الثورة المكسيكية والكوبية، وما تلاهما من ثورات تحرُّرية ضد الاستعمار، ثم الاستبداد- والنضال من أجل صياغة دستور حقيقي يكفلُ الحياة الكريمة للإنسان ويبني معالم دولة المؤسسات الحديثة.

ومن خلال هذا السرد المبسط لنماذج قد تكون متشابهة في الظروف والأهداف، نتساءل: هل فشل الربيع العربي في بناء نموذج ديمقراطي عربي؟

من الصعوبة بمكان الحكم بنجاح أو فشل الربيع العربي منذ انطلاقته في 2011؛ حيث إنَّ التاريخ يشهد بأن الولايات المتحدة الأمريكية استنزفت نصف قرن ملطخة بالاغتيالات والحروب الأهلية والتطهير العرقي المؤلم حتى وصلت إلى ما هي عليه الآن، فما بالك بثورات عُذرية لم تتجاور سبع سنوات عجاف حتى اللحظة أمام تغوُّل كبير للاستبداد السياسي والتغلغل الأمني لها في كل مفاصل مؤسسات الدولة، إلا أن المؤشرات تُنذر (ربما) بفشل المشروع الثوري الإصلاحي الذي كانت باكورته تونس مرورا بمصر وليبيا وانتهاء بسوريا -إن استثنينا اليمن لأسباب متعددة- فمن يتتبع خيوط الحِراك الشعبي يلحظ أن ثمَّة عوامل رئيسية تُضعف تيار نجاح هذا الربيع، ومن تلك المؤشرات غياب البديل الحقيقي عقب كل حِراك شعبي. وعلى الرغم من أن الثورات العربية تقاطعت في تحقيق مصلحة واحدة وهي بناء دولة مدنية ديمقراطية، إلا أنها تشترك أيضا في غياب البديل الناجح لمرحلة ما بعد زحزحة النظام القائم؛ إذ لم يخرج من صلب هذه الثورات قيادات فذَّة يتفق عليها الجميع ويمكنها أن تقود الحِراك الشعبي نحو الإصلاح وبناء مؤسسات الدولة.

أضف إلى ذلك ضعف النضج السياسي للمواطن العربي؛ فقد شكل الاستبداد الحانق على المواطن والمؤسسات هاجسا حقيقيا لدى الشعوب العربية والتي أصبحت تَتقصَّد لقمة العيش وصرف عيون السلطة الأمنية عنها قدر المستطاع، كما أسهمت السجون السريَّة واعتقالات أصحاب الرأي وإعدام التعددية السياسية وسحق نزاهة الانتخابات البرلمانية والرئاسية على حدٍّ سواء في خلق ثقافة الرضى بالأمر الواقع؛ فانعكس ذلك سلبا عن ولوج المواطن العربي في السياسة وقراءة الواقع المحيط به خَشيةً من بطش السلطة أو تصفيته لدى بعض القيادات الحزبية والفكرية.

علاوة على أنَّ تغوُّل الأنظمة السابقة في مؤسسات الدولة يعدُّ سببا مهما في فتح المجال نحو إفشال هذا الحِراك العربي الشعبي؛ ويبدو أن الولاء المؤسساتي لا يزال وفي هذه المرحلة بالذات يُذعن للأنظمة السابقة؛ وذلك يُعطينا مؤشر حقيقي حول مدى تشابك تلك الأنظمة بالقطاعات الحيويّة بالبلاد؛ وهناك النموذج المصري والليبي وغيرهما، كما إن ذات السيناريو يتكرر في اليمن؛ حيث تحالفت قوات صالح ممثلة في مؤسسة الجيش مع الحوثيين لقتال دول التحالف.

الشاهد في الأمر أن الحُكم بالنَّار والحديد والذي تقوده المؤسسات السلطوية لا يزال جاثما على كل مفاصل هذه الدول؛ مما يُسهم بصورة مباشرة وشبه حتمية بفشل الثورات الشعبية ضد أنظمتها الاستبدادية المنصرمة، ليفتح لها باب العودة من جديد وبثوبٍ جديد، وفتح أبواب جهنم للشعوب لتكتوي بها جزاء حِراكها المناهض لها؛ فتزداد أملا بعودتها لتكون أكثر إذعانا ورضوخا أمام شبح الفوضى العارمة وانبعاث رائحة الحروب الأهلية التي أزكمت الأنوف وقضت على مظاهر المدنيَّة ودمَّرت البُنية الأساسية.

لكن يبدو أنَّ المشهد يُعيد نفسه بحِرفِية مُتقنةٍ وربما ينطبقُ على الواقع العربي الراهن المثل القائل: "يا زيد كأنَّك ما غزيت"؛ فأمام أنهار الدِّماء الزَّكية اختلطت دماء أخرى، وأمام التضحيات الطَّاهرة ولِجَت بها مصالح مريبة، وبين غمضةِ عينٍ وانتباهتها بدأنا نرقُب تحوّل في المشهد المدني فيما أُطلق عليه بـ"الربيع العربي" لتعود الأنظمة المنهزمة إلى سابق عهدها قبل هذا الربيع، وكأنَّ التاريخ يعيد نفسه حول مستقبل الدولة حينما يحكمها غير المدنيين ابتداءً من الدولة العُثمانية وما قبلها، مروراً بأبطال الحربين العالميتين الأولى والثانية، وانتهاءً بالدول التي اندلعت فيها الثورات وكان يحكمها آنذاك العسكر. والمُخيف في الأمر أن قادة "الربيع العربي" أصبحوا كما يقول المثل "برزت تفق"، فبعدما أزاحوا قيادات ضاربة في العمق السياسي والاستحواذ الاقتصادي وما يملكونه من حُلفاء أشدَّاء، أصبحت الساحة السياسية فارغة مما جَرَّها إلى ويلاتٍ اجتماعية وانهياراتٍ اقتصادية مُفجِعة.

ماذا لو أن بوعزيزي تونس أفاق من قبرهِ وشاهد واقعنا العربي الذي يعيش فوضى عارمة من فقرٍ سياسي، وتصحّرٍ أيديولوجي عبر فتاوى مُبعثرة تُبيح بعض الدماء عن الأخرى باسم المذهب والعِرق دون الأخذ بالاعتبار قول النبي الكريم "دمُ المؤمن على المؤمن حَرام"، وأمام اقتصادات هزيلة، ناهيك عن التخلف التربوي وزيادة أعداد العاطلين وانعدام براءات الاختراع وهزالة البحث العلمي، وهبش قبور من فاضوا إلى بارئهم لإذكاء روح التعصُّب والجاهلية وتحقيق مصالح التشرذم بالقبيلة والعشيرة والطائفة على حساب الوطن؟! فهل كاد يصدحُ البوعزيزي بصوته المبحُوح تجاه من هَرِمَ الوطن بفسادِهم لو كان يعلم أنه بذلك سيُلمِّع صورة بعض من يُحسبون على الدين وهو بريء منهم كبراءة الذئب من دم ابن يعقوب ليصبحوا وكأنَّهم مشاهير هوليوود؟

الدول العربية بحاجة لأن تبني منظومتها الإصلاحية بتروٍ ومسؤوليةٍ بعيداً عن المِثالية الزائفة والمستقبل الهُلامي والمصالح الحزبِية والنَّعرات الطائفية؛ فالمواطن العربي اشتعل رأسهُ شيباً من الصِّراعات واستعراض العضلات وهو في أمسِّ الحاجة للعدالة الاجتماعية والنُّضج السياسي والازدهار الاقتصادي، والتاريخ لا يرحم الأُمم حينما يخطُّ مراحلها وما آلت إليه حينما يتصل الأمر بمرحلة مِفصلية، ما يبدو حتى اللحظة أن المواطن وبعدما كان يستبشرُ بالربيع العربي خيراً أصبح وكأنَّهُ يدورُ في حلقةٍ مُفرغةٍ مُحاطةٌ بألغامٍ وكمائِن، فلا يزالُ يشعرُ بالإحِباط والانهزامِ ويرى أنه في متاهات سحيقة.. ودمتم بود!

sultankamis@gmail.com