تحديات التربيّة الأخلاقية

آ.د/ أسامة محمد عبدالمجيد إبراهيم
مستشار مؤسسة الملك عبد العزيز للموهبة والإبداع


إن التربية بالأساس هي مسعى أخلاقي، ودور المربين الأول هو خلق بيئة راعية لبناء شخصية أخلاقية سوية، وتقديم أنفسهم كنماذج للتربية الأخلاقية تجسد الفضائل، ومصدر إلهام لطلابهم. وللقيام بذلك، فإن المربين بحاجة إلى معرفة كيف يمكنهم تعزيز قدرات الأبناء على الالتزام بالسلوكياتِ الأخلاقية مع والنفس ومع الآخر، وتشكيل خبرات تبني وجدانهم وتكسبهم القدرة على التسامُح، والعدل، والتعاطُف مع الآخَر، والاحترام، والضمير الحيِّ، ومراقبة الذات.
وتشير الفقرة الثانية من التعليم الأساسي بفنلندا (وهي أحد أفضل النظم التعليمية في العالم) أن "الغرض الأساسي من التعليم هو دعم نمو الطفل ليصبح إنسانا ومواطنا مسئولا من الناحية الأخلاقية في المجتمع وتوفير المعرفة والمهارات الضرورية لمواجهة الحياة". وتعرف رابطة الإشراف على المناهج وتطويرها (ASCD) "الشخصية الأخلاقية" بأنها: الشخصية التي تحترم كرامة الإنسان، وتهتم برعاية الآخرين، وتجمع بين المصلحة الفردية والمسؤوليات الاجتماعية، وتظهر النزاهة، وتعبر عن الخيارات الأخلاقية، وتسعى إلى حلول سلمية للصراعات.  
لقد حاول الفلاسفة منذ القدم وصف وتصنيف الفضائل المميزة للحضارة. وحديثا حاول الباحثون في مجال التربية إعادة صياغة هذه الفضائل في عصر أحدث التقدم التكنولوجي الهائل والتوجهات النسبية تجاه الطبيعة البشرية اهتزازا كبيرا في رؤيتنا الأخلاقية. وعلى الرغم من أن هذه المفاهيم تتغير بسرعة كبيرة اليوم أسرع من أي وقت مضى، فإن هذه الفضائل تظل حجر الزاوية في التربية والمجتمع. وسيظل على الآباء والمربين إيلاء ترسيخ هذه القيم والفضائل، كهدف أساسي من أهداف التعليم، وإعادة صياغة التربية والتعليم على أسس الأخلاق في العصر الحديث.
ويعتبر مفهوم الذكاء الأخلاقي أحد أحدث المفاهيم في مجال الذكاء، وهو يشير إلى القدرة على تطبيق المبادئ الأخلاقية على الأهداف الشخصية والقيم والإجراءات. تتكون بنية الذكاء الأخلاقي من عدة كفاءات: ترتبط أربع كفاءات بالنزاهة، وثلاثة بالمسؤولية، واثنين بالصفح، وواحدة بالرحمة. الأربع كفاءات الخاصة بالنزاهة هي: العمل بشكل متسق مع المبادئ والقيم والمعتقدات، قول الحقيقة، الوقوف عند ما هو حق، وحفظ الوعود. أما الكفاءات الثلاثة للمسؤولية فهي تحمل المسؤولية الشخصية، الاعتراف بالأخطاء والإخفاقات، تبني المسؤولية لخدمة الآخرين. ويتضمن التسامح العفو عن الأخطاء الشخصية، والعفو عن أخطاء الآخرين، والرحمة هي العناية الصادقة بالآخرين. ويجب على القادة التربويين والمعلمين في المدارس أن يدعموا ويعززوا تلك الصفات لدى طلابهم.
في حوار مع عالم النفس الأمريكي روبرت ستيرنبرج حول ما يجب التركيز عليه أكثر في التربية اليوم قال: "لقد أنتجنا عقولا كثيرة مبدعة وخلاقة، لكن هذه العقول كان وراء الانهيار الكبير للاقتصاد الذي حدث إبان الأزمة المالية العالمية، لقد اهتممنا بتنشئة العقول ولم نهتم بتنمية التفكير الأخلاقي، فكانت النتيجة أن استغل هؤلاء ذكاؤهم ومواهبهم لصالحهم الشخصي على حساب الصالح العام .. نحن في حاجة إلى بناء جيل لديه القدرة على التفكير بحكمة وأخلاق".
تحدث  ستيرنبيرج عن ضرورة تنمية الحكمة لدى الطلاب من خلال تعزيز استخدام الفرد لقدراته من أجل الصالح العام وليس من أجل مصالحه الشخصية الضيقة. ووفقا لـ ستيرنبيرغ، فإن الحكمة تكمن في "القدرة على الموازنة بين الأمور"؛ فالشخص الحكيم هو "الشخص القادر على الموازنة العقلية بين نتائج الأمور على المدى القصير والمدى البعيد، وبين المصلحة الشخصية ومصالح الآخرين، وذلك مع الوضع في الاعتبار جميع الخيارات المتاحة، وفقا للوضع القائم، أو من خلال السعي لتشكيل وضع جديد". مع التأكيد على أن أي قرار لا يأخذ في الاعتبار الصالح العام لا يعد قرارا حكيما.
كما اقترح جاردنر أيضا مفهوم العقل الأخلاقي في كتابه خمسة عقول للمستقبل Five Minds for the Future. أهم ما يميز العقل الأخلاقي هو المسئولية الاجتماعية وإدراك الفرد لمسئولياته تجاه الآخرين وسعيه للصالح العام. ويعد العقل الأخلاقي بمثابة الرقيب الذي يضبط ويوجه استخدام لفرد لقدراته ومواهبه بما يحقق الصالح العام، وحتى لا يوجهها في العدوان والتخريب أو الرغبات والنزوات، أو التعدي على قوانين المجتمع. ولهذا فإن تنمية العقل الأخلاقي يعد بمثابة الممر نحو بناء شخصية سوية متزنة تسعى إلى بناء المجتمع، كما أن بناء تلك العقول الأخلاقية لدى المراهقين من شأنه أن يؤثر في كل مظاهر حياتهم، وكذلك نوعية علاقاتهم المستقبلية ومهنهم وإنتاجهم ومهاراتهم، بل ومساهمتهم في الفن والتجارة والأدب والمجتمع المحلي، بل والمجتمع الإنساني ككل، ولعل الأساس الأخلاقي الذي نوفره للمراهقين يمثل المهمة الأكثر أهمية للتربية.

للأسف ينشأ الأطفال اليوم في جو أكثر تلوثاً من الناحية الأخلاقية من الأجيال السابقة لسببين: أولاً، ضعف العديد من العوامل الاجتماعية التي ترعى وتنشئ الأخلاق مثل: إشراف الكبار، ونماذج السلوك الأخلاقي والتدريب الروحي أو الديني، وعلاقات الكبار الحسنة، والمدارس ذات الشخصية، والقيم الوطنية، والدعم المجتمعي، والاستقرار، والآباء الأكفاء. ثانيا، يقع اليوم أطفالنا تحت وابل من الرسائل الخارجية التي تتعارض مع القيم الحسنة التي نحاول غرسها. هذه العوامل تضع الآباء والأمهات أمام تحديات حقيقية بشأن تربية الأطفال تربية أخلاقية.
واليوم لم يعد ممكنا أن يجلس الآباء مستكينين مفترضين أن أطفالهم سوف يصبحون بشراً لائقين، بل يجب أن يعمد الآباء والمربين إلى إعطاء قدر من الوقت للتدريب القصدي للفضائل والعادات من أجل بناء عادات وسلوكيات حميدة لدى أبنائهم، وأن يبدأ هذا التدريب في سن الطفولة المبكرة،. وأولا وأخيرا فإن أي مجهود لتنمية الفضائل والسلوك الأخلاقي في ظل غياب القدوة الوالدية الحسنة أو النموذج سوف يضيع هباء منثورا
إن تطوير العقل الأخلاقي لن يؤدي إلى مخرجات تعليمية أفضل للمدارس والمجتمع فحسب، بل ستفضي أيضا إلى طلاب أذكياء وجيدون ولديهم قيمة إنسانية عالمية.

تعليق عبر الفيس بوك