عبد الرزّاق الربيعي.. يوميّات الوفاء والحنين

 

أحمد بن سيف الهنائي

 

كثيراً ما استوقفتني مقولة تشي جيفارا: "لا يقاس الوفاء بما تراه أمام عينك، بل بما يحدث وراء ظهرك"، وعندما تعرفت إلى الشاعر عبد الرزاق الربيعي، أدركت مدى انطباق هذه المقولة على واقع الحال، لقد كان الربيعي وفيّاً مخلصًا لمن حوله، وأهله القريبين، والبعيدين، إلى درجةٍ تثير فيك الفضول، والدهشة والإعجاب، وكثيراً ما سمعته يُردد قول أبي تمام في مواقف شتّى:

 

 رأيتُ الحُرَّ يجتنبُ المخازي

 

 ويَحْميهِ عن الغدرِ الوفاءُ

 

 

هذا الوفاء الذي ما انفك ملازمًا له في حلّه، وترحاله، ومسيطراً عليه في جميع حالاته الشعورية، كخُلقٍ أصيل جُبل عليه منذ نُعومة أظفاره، حيث ولادته، ونشأته، وصباه في بغداد، قبل أن يمسك بيده عصا الرحيل، وهذا جعل د. عبد الرضا علي، الأكاديمي، والناقد العراقي المقيم ببريطانيا يطلق عليه لقب "الوفي"، ولم أنس موقفه الرائع مع الشاعر الشيخ هلال العامري في العام 2009م، عند زيارته لشقيقه الأكبر د. حاتم جبار الربيعي الذي كان يشغل منصب الملحق الثقافي العراقي ببكين، بعد إجراء العامري عملية جراحيّة كبرى عام 2009، بمدينة (تانجين) التي تبعد عن بكين 400 كيلو متر، فانطلق على جناح قطار الشوق، والوفاء بصحبة شقيقه لعيادته، والاطمئنان على صحّته، وقام شقيقه بالطلب من أحد الأطباء العراقيين بمُتابعة حالته الصحية بعد مُغادرته الصين، في حين أن البعض تأخذه مشاغل الحياة عن زيارة أصدقائه، ولا يفصلهم عن المستشفى سوى بضع كيلومترات!!.

 

 

وفي جلساته، وحواراته، لا يكتفي بذكر أصدقائه القدامى المُقرّبين الذين لم تفرّقهم عواصف الشتات، وتوزّعهم في بقاع الأرض، أمثال: الشعراء: عدنان الصائغ المُقيم بلندن، وجواد الحطّاب الذي بقي في بغداد، وفضل خلف جبر المقيم بالولايات المتحدة الأمريكية، ود. أحمد الدوسري المقيم في المنامة، وعبد العزيز النجدي المقيم بباريس، وآخرين بعضهم تعود معرفته به إلى أيام الدراسة الابتدائية كالفنان التشكيلي طالب جبّار، والشاعر محمد حبيب مهدي، ومحمد الخطاط، وسعدي عباس، وقاسم جبر، وعباس ناصر الواسطي، وحسن عجرش!! بل يتذكّر حتى معلّميه الذين درّسوه في تلك المرحلة، ويسعى للبحث عنهم، والتواصل معهم كما جرى مع أوَّل معلم حببَّ إليه القراءة وهو أستاذ حسين كركوش، وكان ذلك في الرابع الابتدائي عام ١٩٧١ بمدرسة (النهاوند)، ولم يمكث المعلّم في تلك المدرسة سوى سنة واحدة، إذ استبعد عن المدرسة بعد اتهامه بنشر الفكر اليساري بين التلاميذ، فغادر العراق، موصوما بتلك اللعنة!  لكنه لم يغادر ذاكرة الربيعي، فظلَّ يبحث عنه، كما روى للإعلامي سالم العمري خلال استضافته ببرنامجه الإذاعي "كل الأسئلة"، حتى عثرَ عليه في باريس بعد أربعين عاماً، وقد فوجئ عندما عرف أنه يتابعه، ولا يعلم أنّ الشاعر (عبد الرزّاق الربيعي) الذي كانت تعصف بقلبه رياح الحنين، هو ذلك الطفل النحيل الذي كان يعيش في منطقة شعبية، واسمه في سجلات المدرسة هو (عبد الرزاق جبار عطية)، وهو من أخذ بيده في طريق الكتابة، ولم يتخيّل أنّه زرع بداخله بذور حب القراءة في تلك السنّ المبكّرة! إلى جانب عمّه(سماري عطية)  الذي كان معلمًا، وقد اعتاد أن يجلب له حكايات  ألف ليلة وليلة، على شكل أجزاء متفرّقة، وكتبا، ومجلات، وصحفا كانت تعجّ بها مكتبات العراق، وقد شكّلت له المنابع الأولى.

 

حتى مع قصة الوصول إلى هذا الصديق مرَّ عبر محطة وفاءٍ أخرى، لصديقٍ قديم سهّل من تلك المهمة، وهو عبد العزيز النجدي، إذ قطعت الحياة حبل تواصلهما عن بعضٍ أكثر من عشرين عاماً، ليجتمعا مجدداً، وتمتن عُرى التواصل، ويحقق للربيعي حلم الوصول إلى معلمه الأول.

ولم ينس معلّمه على طريق القصيدة الشاعر الكبير الراحل عبدالرزّاق عبد الواحد الذي استمع له في مهرجان طلّابي أقيم بالكاظميّة، أواخر السبعينيّات، فأعجبه، وطلب منه، كما روى لي عبد الواحد، ذات لقاء ببيت الربيعي في مسقط، ومن صديق شاعر جميل، لفظت شبابه الحرب في 1988 اسمه(صباح أحمد حمّادي)، أن يمرّا به بمكتبه بوزارة الإعلام، وهناك وضع أمامها أسرار الكتابة الشعرية، وتكررت لقاءاتهما، وكانا يطلعانه على نصوصهما، ويبدي ملاحظاته، التي تصل إلى مرحلة القسوة، وبقي على تواصل مع الشاعر الكبير حتى وفاته عام2015!

وبعد جلسةٍ ثقافية ذات ليلةٍ بالنادي الثقافي، حدثنا أحد رفاقه العراقيين عن الكاتبة "أنعام كجه جي" التي فازت بالمركز الثاني بجائزة البوكر عن روايتها" طشاري" عام 20016 التي التقى بها عبدالرزاق في إحدى ليالي 1972 في الوزيرية ببغداد، وكتبتْ على مجلة بخط اليد كان الربيعي يكتبها مع صديقين حميمين هما: قاسم جبر، وعباس ناصر الواسطي، واسمها " الفجر"، وكان وقتئذٍ في الصف الخامس الابتدائي، ثم غادرت أنعام كجه جي العراق بعد ذلك اللقاء بقليل، ولم تعد، وبقيت ملاحظاتها وتشجيعها له في ذاكرته حتى كتب مقالا، فتذكرته، وتواصلا ثم التقيا بباريس، ولعلّ في كتابه ( يوميّات الحنين) الصادر عن النادي الثقافي، الكثير من تفاصيل الوفاء والحنين، للأماكن الأولى، وأصدقاء رحلوا، وآخرين على قيد الشتات!

الوفاء ليس للأشخاص فقط في وجدان الربيعي، بل حتى للمكان، حيث ذكر لي شقيقه الراحل "محمد" رحمه الله، عن ارتباط الربيعي بالأمكنة بما يُثير الدهشة حقاً، كـ الدكان الصغير لـ"أم جعفر" في مدينة الثورة، أو( الصدر حاليًا)، وهي منطقة شعبية أمضى بها سنوات طفولته الأولى، وكان يتردد عليه بحكم أنه ملكٌ لواحدٍ من أقاربه(شندي عوان)، وظل مطبوعاً في ذاكرته، وحين زار العراق ذهب يبحث عنه، ووجده يصارع الزمن، ويتحدى الظروف رغم مضي أكثر من ٤٥ سنة!!،  ومن الغريب أنه وجد لائحة بأسعار المواد مازالت مثبتة، في مكان مرتفع لا تطاله يد العابثين، والزمان،  وعمد إلى تصويرها بهاتفه، لما تحمل من قيمةٍ وثائقية، وأرشيفية مهمة في حياة الربيعي.

وفاؤه لزوجته الراحلة (عزّة سلوم الحارثي) لا يزال يسطر في صفحات شعره، وقد تجلّى ذلك في ديوانه الذي رثاها به والذي حمل عنوان "قليلاً.. من كثير عزة". يضرب لنا الربيعي مثالاً مشرقاً في الوفاء للإنسان، والمكان، والأهم من ذلك هو الوفاء للبشرية في بسط رسالة الحب والخير، ومكارم الأخلاق.