الزرعي أنموذجا للشراكة مع الحكومة.. ولكن!

د. عبدالله باحجاج

أخذت مُبادرة رجال الأعمال صالح بن علي بن ناصر الزرعي بالتبرُّع بـ700 ألف ريال لمستشفى جعلان بني بوعلي، زخماً وطنيًّا كبيرًا وواسعًا؛ كون معظم رجال أعمالنا يأخذون ولا يُعطون، ونكاد نسمع بأقل من عدد أصبع اليد الواحدة التي تأخذ الكثير، وتعطي القليل، وقد آن الأوان لها أن ترفع حجم هذا القليل، وأن يكون مُستداما، وكذلك فقد آن الأوان للآخرين أن يعطوا مقابل الكثير مما أخذوا ويأخذون إلى الآن، لكن: كل هذا ينبغي أن يكون ممنهجا، وجماعيا، بدلا من الفردانية، وعيوبها.

وفي الوقت ذاته، تفتح خُطوة الزرعي النقاشات حول الدور التنموي لرجال الأعمال والشركات والبنوك خلال المرحلة الراهنة التي تعاني فيها خزانة الدولة من نقص في السيولة المالية؛ مما يُؤثر سلبا على مشاريع الحكومة التنموية والاجتماعية، بل إنَّ هاجسنا قد أصبح يطال إمكانية قدرة الجهات الحكومية على توفير الحد الأدنى من المعيشة للعديد من المواطنين في مرحلة الضرائب المقبلة، ومن المعروف أنَّ هذا الحد الأدنى يكون مُرتبطا بما تملكه الدولة من موارد وإمكانيات مالية، وكلنا نعلم واقعنا المالي، وتحدياته المقبلة، في ضوء الأزمة النفطية، وهنا، يأتي دور الشراكة الثلاثية بين القطاعات الحكومية والخاصة والأهلية، ومن هنا كذلك، ننظر لخطوة الزرعي من منظور الشريك الذي ينبغي أن يأخذ دوره التنموي والاجتماعي، التكاملي، مع الحكومة، لكن بعيدا عن الفردانية التي قد تترتب عليها الحقانية في الأولوية بالخدمة المدعومة بواسطة هذه الوسيلة؛ مِمَّا قد يولِّد الشعور برد الجميل، حتى لو لم يطلب ذلك؛ لأن هذه حالة بشرية؛ لذلك نرى أن مثل هذه الخطوات الفردانية الرائعة، ينبغي أن تكون في إطار مبادرات إقليمية على مستوى كل محافظة من محافظات البلاد، لتغطية النقص المالي للمشاريع الحكومية التنموية والاجتماعية والشبابية...إلخ ومؤشرات عجز حالية تفتح لنا مرحلتنا المقبلة بكل مرئياتها واستشرافاتها.

وكانت فكرة الشراكة الثلاثية يحملها بصوت مرتفع الشيخ على بن سعيد الشحري عضو المجلس البلدي لمحافظة ظفار، وقد فتحها معنا قبل يوم واحد من خطوة الزرعي، غير أن الزرعي قد وضع النقاط فوق حروف التفكير، وجعلنا نرى المشهد أمامنا واضحا من منظور ما يصلح للمرحلة المقبلة، وكيف يمكن توظيف مثل هذه الخطوات الإيجابية لصالح التنمية نفسها؛ فالواقع التنموي والخدمي الراهن يشهد اختلالات معرقلة، وهو يتجلى في الثنائية المتعارضة التالية: تطور متسارع في التفاعلات فوق السطح -مثل ما يحدث للقطاع السياحي في محافظة ظفار- لا يقابله تطور مماثل في الخدمات والبنية الأساسية؛ مما أصبح يُحدث اختلالات واضحة لن تخدم توجهات الدولة المستقبلية.

وبالتالي، ينبغي أن يصب النقاش الآن حول كيفية إيجاد مُبادرة لحمل كل شركاء التنمية في محافظة ظفار في المشاركة في استحقاقات التنمية الاقليمية، والشركاء كُثر؛ مثل: المديريات العامة التابعة لمختلف الوزارات، وكذلك رجال الأعمال والشركات الحكومية والخاصة المحلية والأجنبية والبنوك..إلخ والفعل الخيري المجتمعي، ومؤسسات المجتمع المدني -رغم قلتها- ولو اجتمعت جهود كل هذه المؤسسات، وأجمعت على الشراكة الانصهارية لتحركت فورا الكثير من الملفات التنموية والخدمية التي تراوح مكانها منذ عدة عقود، والبلاد محتاجة لها من أمس قبل اليوم، فكيف بالوضع غدا؟!

وهذه الشراكة الثلاثية تحتمها كذلك، ضمانة عدم تكرار الخدمات التنموية والاجتماعية التي تقدم للناس من بعض الشركاء خاصة الشركات ورجال الأعمال، وكذلك تضمن عدم تعارضها، وقد لاحظنا فعلا أن ما تخصصه الشركات من مبالغ مالية سنوية كبيرة للمسؤولية الاجتماعية تتضارب وتتداخل فيما بينها، وتذهب بعضها في مسارات لا تشكل أولوية وطنية؛ فعندما نتحدث مثلا عن شركة حكومية واحدة فقط، تخصص مليوني ريال سنويا لمجتمعها المحلي، فكيف بمبالغ الشركات الأخرى، لو تجمعت سنويا، وصرفت على مشاريع وخدمات تنموية واجتماعية؟!

من هُنا، نرى أنه آن الأوان لكل مجتمع محلي أن يفتح هذا الملف في ضوء التحولات التي تمر بها الدولة، وتلك التي تنتظر المجتمع من تداعيات.

ورُبما علينا، أن نقترح على مكتب وزير الدولة ومحافظة ظفار، الدعوة لمؤتمر إقليمي لشركاء التنمية الإقليمية، لبحث تفعيل هذه الشراكة وتنظيمها، وإدارتها ضمن بوتقة الرؤية المشتركة تدعيمًا لتوجهات الدولة من جهة وتغطية الخدمات الاجتماعية التي قد تتضرر من جراء تحولات المرحلة الراهنة، فهناك فعلا أموال سنوية ضخمة للمسؤولية الاجتماعية مستحقة لكل مجتمع محلي، أين تذهب؟ كما أنَّه على البنوك والفنادق مثلا التي تُحقِّق سنويًّا أرباحا كبيرة، أن تُسهم بدورها في التنمية الإقليمية وتغطية الحاجة المجتمعية المتزايدة، شريطة أنْ يكون ذلك داخل إطار مُؤسساتي، وضمن العمل الجمعي، لا الفرداني، وتحت رقابة الدولة عبر سلطاتها المختلفة.

هل سينفتح المكتب مع مثل هذا الاقتراح؟ هى دعوة لكل المحافظات، لكن نقدم ظفار هنا، كمثال، وسيكون هذا الانفتاح نقلة نوعية وكمية في أدوار المحافظات التي تجمدت في أدوار تقليدية، بل يغلب عليها الطابع الميكانيكي، لم تعد تتناغم مع التطورات الإيجابية التي تحدث داخل الدولة، وتلكم النقلة تحتمها مرحلة تحولات دور الدولة -من ريعي إلى جبائي- وينبغي أن تكون تلقائية، وضمن سياقات الفعل السلطوي المتفاعل والإيجابي مع المراحل؛ حيث يمكن أنْ يقود مكتب وزير الدولة ومحافظة ظفار تجربة إقليمية يُمكن أن تُعمَّم بعد إنضاج فكرتها، ورؤية حجم نتائجها على الواقعين التنموي والاجتماعي، وهذه النقلة ليست بحاجة إلى إدخال أو تعديل صلاحيات المحافظات، بل هى تندرجُ ضمن صلب وجوهر الصلاحيات الممنوحة للمحافظات، بنصوص صريحة، لكن الإشكال هنا: كيف ننظر إليها؟ وكيف نعمل على بلورتها في كل المراحل، ووفق مرئياتها المتجددة، وليس المرئيات الماضية أو الثابتة؛ لذلك، فإنَّ مثل هذه المبادرات لا تحتاج سوى عملية إصلاح داخلي فقط، كتفعيل المكتب الفني للمحافظ، وتحويله إلى هيئة عامة للتخطيط الإقليمي، كما كان في الثمانينيات، شريطة تزويده بالكفاءات القادرة على العمل لصالح مجتمعها المحلي، ومنحها -أي الهيئة- صلاحيات الاستحقاق التنموي للمحافظة؛ تخطيطا وإدارة وتمويلا لو جزئيا، من منظور الرؤى التي أشرنا إليها سابقا في هذا المقال.

عندها، لن تبرز للمشاريع الحكومية الإقليمية الأساسية مشكلة النقص المالي؛ فالشركاء عبر هذه القناة سيكونون جاهزين لسد النقص أو لتغطية الحاجة الخدمية والاجتماعية التي لا تؤجل، ونقدم هنا، مشروع مستشفى السلطان قابوس الجديد كنموذج، الذي أمر به عاهل البلاد -حفظه الله- منذ عام 2009، ورغم ذلك، فقد غرق في التأجيل السنوي التراكمي، حتى وصل وضعه الآن إلى العجز عن توفير المبلغ المخصص لبناء المستشفى بأكثر من 700 سرير، وبتكلفة أكثر من 200 مليون ريال، ويقال على نطاق خاص جدًّا: إنَّ هناك خيارا جديدا، يقضي بتقليص حجم طاقة هذا المستشفى إلى 500 سرير، لدواعي خفض التكلفة، لأسباب مالية، وينتظر الآن التوجيهات بشأنه، فهل هذا يخدم التنمية الاقليمية؟ خاصة إذا ما علمنا أنَّ حجم الطاقة الاستيعابية لهذا المستشفى الجديد 700 سرير، قد روعيت من 2009 لكي تستوعب الحاجة الاجتماعية الإقليمية الراهنة بحجم تحدياتها الجيوسياسية، وماذا يعني هذا؟ يعني أن إقامة المستشفى الجديد بسعته الاستيعابية المعدَّلة، لن يخدم الحاجة الفعلية الآن على الأقل فكيف بعد السنوات الثلاث المقررة لبنائه؟

إذن؛ الشراكة بين شركاء التنمية قد أصبحت فعلا -كما يقال- فرض عين على كل رجل أعمال في بلادنا، وعلى الشركات والبنوك أسوة بالجهات الحكومية، وتظل المسألة منوطة بالحكومة، فهل ستدفع بهذه الشراكة في صحوة من قبل بعض رجال الأعمال نحو خدمة مجتمعاتهم؟

هناك الآن حِسٌّ سياسيٌّ رفيع لبعض رجال الأعمال بتحديات المرحلة الوطنية في ضوء التحولات الداخلية والإقليمية المقبلة؛ مما جعلهم يفكرون خارج الصندوق، ويظهر لنا الزرعي كنموذج لهذا الوعي الفردي، كما ظهر لنا نموذج ثنائي من هذا الوعي، قد قطع شوطا مهما في تأسيس شركة للمسؤولية الاجتماعية غير ربحية، تكمل دور الحكومة في حماية الفئات المحتاجة وتلك المتضررة من التحولات الاقتصادية المقبلة. وهذا يعني صحوة متزايدة للمسؤولية الاجتماعية من قبل رجال الأعمال، إذا لم تحتويها القنوات الشرعية ويديرها الفاعلون الوطنيون ستنفجر في وجه المرحلة المقبلة؛ وبالتالي ينبغي على الجهات الحكومية الانفتاح مع مثل هذه المبادرات التي هي بمثابة إدارة سياسية لمرحلة مقبلة حاملة للكثير من التحديات الداخلية والخارجية، فهل ستنفتح الحكومة معها من منظور إدارة أزمة قبل أن تقع، وحتى لا تقع؟

وسيكون لنا مقال تحليلي مُعمَّق عن هذا الموضوع يوم الخميس المقبل بمشيئة الله.