التعليم المبكر وتأثيره في القدرات الشخصية المستقبلية

د. عامر العيسري – مسقط – سلطنة عُمان
الطفولة المبكرة هي مرحلة الغرس لبذور العلم والمعرفة يحصد الإنسان ثمارها في مراحل حياته اللاحقة ، فإذا لاقى الغرس يدا خضراء خبيرة بفنون التنوير والإرواء من المنابع الأصيلة الصافية بالتأكيد سوف تجد الطفولة طريقها سالكة نحو المستقبل الإنساني الحافل بالعطاء والإنتاجية والإبداع،. ومما أفضت إليه خلاصات الأبحاث و الدراسات الحديثة ما للخبرات المبكرة لدى الطفل من تأثير بارز على طبيعة النمو لديه، فالطفل في هذه الفترة يكون عجينة ناصعة البياض قابلة للمرونة والتشكل تتسم بحساسية الطفل للأحداث والخبرات التي يتعرض لها ، حيث يتصف الطفل في هذه المرحلة بامتلاك شحنات من النشاط الجسمي الذي يصاحبه التفكير وتُكتسب من خلاله المهارات، ‏ويتأسس معه الاتجاه الإيجابي نحو البيئة والرغبة في اكتشافها والتفاعل معها ، وبالتالي تبدأ لديه إرهاصات الاتجاه نحو الآخرين والخروج من دائرة النفس الضيقة، وتظهر توجهاته تجاه التمييز بين الخطأ والصواب ونحو التفريق بين ما يصلح وما لا يصلح من الأمور،‏ وما ينبغي وما لا ينبغي منها ، فيلجأ بعفويته إلى التساؤل والاستطلاع والرغبة في معرفة ماهيات ‏الأشياء، وتتكون لديه القيم والعادات من خلال تأثير المصادر المحيطة في بيئته، وتظهر لديه بوادر الميل للابتكار والإبداع من خلال تعطشه إلى التشجيع من الآخرين حرصا منه على أن تكون نتاجاته موضع رضاهم .

و التعليم المبكر يشتغل في أولوياته على إكساب الأطفال الصغار أهم المهارات والخبرات والمعلومات التي يحتاجونها. فتأخذ تلك الخبرات بأيديهم نحو النمو والتطور بشكل منظم على الصعيد الفكري والعاطفي والاجتماعي وتتشكل لديهم أدوات بناء الشخصية الإنسانية على صعيد التواصل واللغة. وتؤكد جملة من الدراسات العصرية أن التعليم المقدم للأطفال في بواكير عمرهم هو عامل فعال ومؤثر على تكوين القدرات الشخصية التعّلمية المستقبلية للفرد ومعدل قابليته لاكتساب المهارات كما أنه عامل أساس و مؤثر على سلوكيات الأفراد واتجاهاتهم نحو وطنهم ومجتمعهم ،  بل هناك دراسات تربوية أجنبية حديثة أجريت على الأجنة في بطون الأمهات الحوامل درست أثر تهيئة الأجنة للتواصل اللغوي والمعرفي من خلال تعريضهم لبرنامج  سمعي متنوع حيث أظهرت النتائج التأثير الإيجابي للأطفال المعرضين للبرنامج في مستقبلهم اللغوي والتحصيلي وتسارع اكتسابهم للمهارات الأساسية مقارنة بغيرهم.

والمجتمع الدولي يعي ما للتعليم المبكر من أهمية حيث أفردت اتفاقية حقوق الطفل مساحة من بنودها لضمان حق الطفل في التعليم المبكر ، كما أنه أصبح من بين الأهداف الستة التي تضّمنتها المبادرة العالمية "التعليم للجميع" حيث ينص هذا الهدف على التوسُّع وتحسين العناية والتعليم للطفولة المبكرة خصوصا" بالنسبة لفئات الأطفال الأكثر ضعفا والأقل حظا من حيث توفر الفرص ، لهذا نجد الدول عند تقديم تقاريرها التنافسية للمنظمات الدولية تذكر التعليم المبكر باعتباره أحد الأجزاء المهمة في تقريرها الوطني حول حقوق الطفل لتبرهن على تحقق الأهداف المنشودة من خلال الجهود المبذولة في هذا المجال ، كما أن لجنة متابعة تنفيذ اتفاقية حقوق الطفل تهتم  دائما بمساءلة الدول عن مدى التقدم في تطوير التعليم المبكر وتأمينه لكافة الأطفال فيها ، ومن هنا سعت كثير من دول العالم في خططها لتطوير نظمها التعليمية إلى إدراج مرحلة رياض الأطفال ضمن السلم التعليمي لديها وأكسبته صفة الإلزامية ، بل والمجانية لدى بعض الدول، لأهمية هذه المرحلة في بناء الخصائص الأساسية في التربية بمختلف مستويات الحياة الجسدية والنفسية والعقلية ، وللتسارع الحاصل في تطور النمو اللغوي لدى الأطفال بالسنين الأولى من عمره ، مما يستوجب إكساب الطفل المهارات اللفظية في التعامل والتفاعل ، فتنشأ لدى الطفل جملة من الملكات والسمات الشخصية التي ينبغي استثمارها مبكرا من أجل استنهاض طاقاته الكامنة.

وتأخذ مؤسسات التعليم قبل المدرسي أهميتها من أهمية التعامل مع الأطفال في السنوات المبكرة، حيث خلصت العديد من الدراسات التربوية في مجال الطفولة على أن غالبية المعارف المكتسبة لدى الفرد يبدأ غرسها في الطفولة المبكرة، وأن التكوين الشخصي لسمات الفرد تتحدد في السنوات الأولى من عمره ، فهي مؤسسات تربوية واجتماعية تقدم للطفل تأهيلاً سليماً وتعده للالتحاق بمراحل التعليم اللاحقة ، فتتدرج في الأخذ بيده للانتقال من عالم البيت والأسرة إلى بيئة التعليم والمدرسة ، ينطلق فيها بحرية في ممارسة نشاطاته واكتشاف إمكاناته وميوله ، فيتحصل من خلالها على مهارات وخبرات جديدة ، من خلال توفير المناخ المناسب لتطوير فكره وخياله وإشباع حاجاته ، وكذلك حصوله على التعزيز الداعم لتقدمه من المعلمات والتعود على العمــل الجماعي مع زملائه لغرس روح التعاون والتفاعل الإيجابي ، والاعتماد على الذات وتعزيز الثقة بها والتعبير عن رأيه وتنمية قدراته في الاختيار والمشاركة واتخاذ القرارات، ورعايته اجتماعياً بالمساندة والتوجيه والإرشاد ، وكذلك تمكينه من التعود على النظام المدرسي واحترام الآخرين من زملاء أو معلمات والمسئولين والإداريين. ، ومن خلال ممارسة نشاطات الاتصال والتواصل وتنمية قدراته اللغوية عن طريق محادثة معلمته وزملائه وتقليد الأصوات واستخدامه ألفاظاً فصيحة ومفاهيم أساسية يكتسب من خلالها المهارات اللغوية والاجتماعية وتتكون لديه الاتجاهات السليمة تجاه العملية التعليمية.

وهناك براهين علمية كثيرة ومتعددة تبرز أهمية رياض الأطفال كمرحلة تعليمية ، وتأثيرها الإيجابي على مستقبل حياة الأطفال ، فعلماء النفس يدركون الفوائد العقلية والاجتماعية للأطفال من تجاربهم في برامج التعليم ما قبل المدرسة للمرحلة العمرية (3-6) سنوات ، فقد وجدت مؤسسة هاي سكوب البحثية التربوية High/Scope Education Research Foundation  في أمريكا أن البالغين الذي نشئوا في أسر فقيرة وسنحت لهم الفرصة للالتحاق ببرامج رياض أطفال ذات نوعية عالية، عندما كانت أعمارهم ثلاث أو أربع سنوات كانوا أقل جرائم، وذوي دخل اقتصادي عالي ، وناجحين في حياتهم الزوجية ، وقد تخصصت عدد من المدارس الدولية في برامج الطفولة المبكرة ومناهجها ومن أهم تلك المقاربات المنهجية منهج مونتيسوري الذي يركز على إكساب الأطفال عدد من الخبرات والمهارات من خلال اللعب والفن ، وكذلك منهج ريجيو إيميليا الذي يتبنى طريقة التطور العقلي للأطفال عن طريق التركيز المنظم على التعبير الرمزي، وحث الأطفال الصغار على استكشاف بيئاتهم والتعبير عن مكنوناتهم بما يقدم لهم من أساليب التعبير والتواصل اللغوي.

تعليق عبر الفيس بوك