جذور الذاكرة العُمانية

حاتم الطائي

تملَّكنِي شعورٌ بالفخر وأنا أطَّلع على تفاصيل تاريخنا العريق، خلال زيارتي صبيحة الأربعاء الماضي لهيئة الوثائق والمحفوظات الوطنية، ذاك الصَّرح الشامخ الذي جَعَلني -بعد جولة بين أروقته- أفتخر بوجوده على ثرى هذا الوطن، نظير ما لمسته من عطاءات وجهود دؤوبة للحفاظ على ذاكرةٍ مضيئة مُمتدة في أوردة الحضارات الإنسانية العظمى..

وكَمْ كانت سَعَادتي برغبة الإنسان العُماني داخل أروقة هذه المؤسسة الحيوية، في أنْ تكون له بصمته الصَّادقة في المحافظة على إرثه الفكريِّ، ذاك الإرث الذي لم يُحكَ على الوَرَق فحسب، بل نُحِت على أحجار، وصُك على عُملات وطوابع، ورُسم على خرائط، وُوثق في مخطوطات، وسُرد في صُوَر وأفلام، سيما بعد أن نما إلى علمي أنَّ عدداً من الوزارات والوحدات الحكومية بدأتْ ترحيل محفوظاتها إلى الهيئة. وما أثار دهشتي كذلك -ونحن بقسم "الوثائق الخاصة"- ما سمعته عن إقدام إحدى المواطنات على وَهْب الهيئة كلَّ ما تملكه من مخطوطات دُون قيدٍ أو شرطٍ أو منفعة، إسهامًا فقط في إثراء أرشيف الهيئة، التي لا تتوانى عن إيلائه عَيْن الرعاية والحفظ الآمن والأمين؛ سواءً بالترميم، أو التجليد والنسخ الإلكتروني المتطوِّر، وفق قوانين وأنظمةٍ خاصة بشروط الاطلاع وآليات الحفظ الدائم.

وعلى ما يبدو أنَّ مَثَارات الإعجاب في ذاك اليوم لم تتوقَّف فقط عند طُرق الأرشفة والحفظ؛ لتمتدَّ إلى ما هو أَعْمَق، وهو ما وجدتُه خلف باب الأستوديو الخاص، الذي ما إنْ دلفنا إليه حتى تبدَّت التقانة في أبلغ صُورها، ووسائل الربط بوسائل الإعلام المتلفزة، لتقديم برامج وحواراتٍ متخصِّصة توثِّق لتاريخنا الشفهي، بلقاءات تُجرى مع المعمِّرين وكبار السن أبناء عُمان الحبيبة، وتأريخ شهاداتهم حول مُختلف القضايا والتوجُّهات.. وقد قطعت الهيئة شوطاً رائداً في هذه المهمة، كُلِّل بنجاح منقطع النظير، وهو جَهْد يستدعي شُكرًا لسعادة الدكتور حمد بن مُحمَّد الضوياني رئيس الهيئة، وفريق العمل المثابِر؛ لما يضطلعون به من أَدْوَار تحفظ على العُمانيين إرثهم ومرجعياتهم التاريخية.

وقبل مُغادرة مبنى الهيئة، كانتْ الترتيبات تقتضِي زيارة المعرض الدائم للوثائق والمحفوظات الوطنية بالمبنى المجاور، والذي استقبلتنا جُدرانه الخارجية بمجموعة مُتفرِّدة من الصُّور النابضة برُوْح عُمان القديمة؛ لتكتمل رِحْلَة العَودة إلى الماضي بالولوج إلى قاعة المعرض، فيما يُشبه آلة زمن أعادتنا إلى عُمق تاريخيٍّ بمُفردات ومُكونات ثقافتنا الأصيلة؛ مُشرعة النوافذ على مراحل زمانية تحفظ ذاكرة الوطن، وتوثِّق لأحداث وتطوُّرات مرَّت به وكان هو مَسْرح أحداثها، ككتابٍ مفتوحٍ أمام الأجيال ليس فقط لمعرفة ما حدث، وملابسات حدوثه، وإنما لدراسته والاستفادة والتعلُّم منه.

10 قاعات اختصرت المسافات بَيْن أزمان مُختلفة؛ أخذتنا إلى تاريخ قديم: أدوات ومحابر عُمانية كانت تُستخدم في التدوين قبل آلاف السنين، أحجار ونقوش ورسومات محفورة تؤرِّخ لنمط الحياة وقتها، أنواع كتابات كالثمودية في شبه الجزيرة العربية، ونوع كتابي غريب استُخْدِمت فيه الرموز وكان مُعتَمدًا في شمال عُمان، ونقوش بخط المسند على بوابة سمهرم الأثرية، وأخرى تُخلِّد معركة أبرهة الحبشي، ومخطوط لأقدم وثيقة بيع أراضٍ في التاريخ، وأقدم مُعَاهَدة هُدنة مُوثَّقة، كفيضٌ من غَيْض ما استقبلتنا به قاعة الاستقبال الرئيسية فقط.

وما إنْ يمَّمنا الوجه يميناً، حتى تملكتني الدهشة من تلك الحرفية التي دوِّن بها "تاريخ التوثيق"؛ مرورا بتاريخ المؤسسات الأرشيفية في العصر الحديث، والتي تمنحك تفصيلات تتوالد تلقائيًّا من صور نادرة جدًّا لأرشيف الفاتيكان، ومبنى الأرشيف الوطني الفرنسي، وقاعة دي سيمانكاس الإسبانية، وجناح بجدات بمبني مكتبة قصر توباكي، وقلعة لشبونة، والقصر الملكي لأسرة جوريو الحاكمة، والمشهد التمثيلي الرائع لجيش الخليفة عُمر بن الخطاب، ومخطوط عن عناصر الحسابيات والهندسة في اليونان يعود للعام 300 ق.م.. تصيمم أخَّاذ وترتيب مبتكَر، لا يَبْخَل على زائره باسترسال الحَكْي عبر استنطاق المُقتنيات؛ فهذه قاعة "عُمان عبر التاريخ" بروايات شائقة صاغ مفرداتها العُمانيون، وتحكي كمًّا هائلًا من الإنجاز لحضارةٍ ماجدةٍ أسَّسها الأسلاف، تستحق أن تظل تُرْوَى لليوم للأجيال المتعاقبة، مدعومة بخرائط ورسومات وقصاصات صحفية توضح امتداد الممالك العُمانية عبر التاريخ، وركنٍ خاصٍّ لإسلام أهل عُمان وفيه القصة الكاملة لرسولِ رسولِ الله مازن بن غضوبة، ورسالة رسولنا الكريم إلى عبد وجيفر، وابن الجلندى ملكيْ عُمان، ومرحلة دولة الإمامة الإباضية، والنباهنة، واليعاربة، ومعالم الحياة في عُمان وزنجبار، وصولا لأزهى عصور العُمانيين، والمؤرَّخة بسبعينيات القرن الماضي بقيادة باني النهضة ومُؤسِّس عُمان الحديثة مولانا حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم -حفظه الله ورعاه.

وجنبًا إلى جنب مع قاعة "العُملات والطوابع البريدية"، تتشكَّل الأبعادُ التاريخية لقاعة "العلاقات الدولية"، والتي تَعْرِض جُملة وثائق تسرد كمًّا هائلاً من الرسائل الدبلوماسية والودية بين عُمان والعالم، وبين سلاطين عُمان وأئمة ذاك الزمان؛ رسالة هومر بيث القنصل الأمريكي بمسقط للسلطان فيصل بن تركي، وميسيو لورونس القنصل الفرنسي، والإمبراطور الهندي إدوارد، وسي.جي.إف.فيكن القنصل البريطاني، ورسالة من الكرنل ويلدريدج إلى السلطان تيمور بن فيصل، وأخرى ممهورة بتوقيع السلطان فيصل بن تركي بمنح الدولة الفرنسية أرضا لإقامة مستودع فحم، ورسالة السلطان تيمور بن فيصل للشيخ عيسى بن علي آل خليفة حاكم البحرين.. في تأصيلٍ لنهجٍ دبلوماسيٍّ استَقَى مبادئه الخَلَف من حِكْمَة السلف؛ فكانت عُمان اليوم، وكل يوم، قبلة سلام ومودة يشعُّ نورها الفياض بالصداقة والوئام.

وصايا ومخطوطات دينية، تمائم وصناديق زجاجية.. قاعات معبَّقة بتراث معتَّق لم تَمْنَع سهام التكنولوجيا من أن تثري هذه التجربة بإيجابية، جعلت المعرض وعاءً يحفظ إرثًا وينقل تراثًا؛ فتلك الطاولة الإلكترونية التي تتوسَّط بهوه، تعرضُ وثائق وصورا ومخطوطات مُقسَّمة ومُصنَّفة حسب نظام تصنيف أرشيفي مبهر، تؤهلك لتقنية أكثر ألقًا تعاينها وأنت تَلِج قاعة مَوْلَانا حضرة صاحب الجلالة، والتي أعتبرها بمثابة استراحة من رِحْلَة آخذة عَبْر الزمن، تجلس فيها أمام شاشة عرض مزوَّدة بتقنيات عالية تعرض -عبر 20 دقيقة- سيرة قائد ومسيرة نهضة، أو إن شئت الدقة تفاصيل صِنَاعة القدوة: قابوس الأب الرُّوحي للعُمانيين. لتعود بعد انتهاء الفيلم إلى الواقع مجدَّدا، بنفسٍ مُتأهِّبة للعمل والعطاء والبذل، تتوق أن يُكتب اسمها في ثنايا هذا التاريخ العريق، فتولِّي وجهتك شطر قاعة إنجازات هيئة الوثائق، لتجد نفسك وقبل أن تغادر أرض المعرض ترتسم على وجهك ابتسامة وادعة، وأنت تتمتم بعبارات الشكر لمن أسهم في حفظ ذاكرة الوطن لتكون رافدًا للباحثين والمستفيدين.

.. إنَّ معرضًا بهذا الثَّراء المعلوماتي، وجَهْدا مقدَّرا ومُتميِّزا لهيئة الوثائق الوطنية، يُعيد إلى الصَّدارة الحديث مرة أخرى عن الهُويَّة والعودة للجذور، والعض على مُفردات هُويتنا بالنواجذ، والاحتكام للتاريخ؛ كمَيْدانٍ رَحْب، لابد أن تستمر محاولات سَبْر أغواره وتتواصل؛ إذ يعْنِي حالة تواصل قِيَمِي عابرة لحدود الزمن، ورابطة لأجيال يجمعهم همٌّ واحدٌ اسمه عُمان. فالأثر الوطني الذي تُلامسه فكرة المعرض جهود الهيئة، يضع مسؤولية أكبر على عاتقنا نحن جيل الآباء تجاه الأجيال المقبلة؛ في ظل انفجار معرفي هائل وتوسُّع مضطرد في موجودات الشبكة العنكبوتيَّة، يستوجب إيجاد قواسم مشتركة بين القديم والحديث؛ تحافظ على كينونة المجتمع وتضمن خُصوصيته وتماسك أفراده، وتدفع مسيرتنا التنمويَّة إلى الإمام.

واليوم.. الكلُّ مدعو للإسهام في أن تترسَّخ حكاية المجد العُماني في النفوس، وأن تصل للعالم أجمع؛ فلتكن البداية من هُنا.. من قَلْب مَسقط العامرة.