أبعاد استراتيجية (9)

المؤسسات الصغيرة والمتوسطة: العملاق الوطني النائم

د. هلال بن سعيد الشيذاني

أشار تقرير للبنك الدولي نُشر على موقعه الإلكتروني حول المؤسسات الصغيرة والمتوسطة، إلى أنَّ هناك حاجة إلى حدود 600 مليون وظيفة خلال الخمسة عشر عامًا المُقبلة لاستيعاب الباحثين عن عمل حول العالم وأنه من المتوقع أن يوفر قطاع المؤسسات الصغيرة والمتوسطة 4 من واقع كل 5 وظائف. فلماذا هذه النظرة إلى المؤسسات الصغيرة والمتوسطة؟ وكيف له أن يحقق البعد الاستراتيجي في السلطنة في سبيل تحقيق رفاه اجتماعي مبنيٍّ على نماء اقتصادي؟

      المؤسسات الصغيرة والمتوسطة في الوطن كشرايين الدماء في الجسد، لا يكاد يخلو منها مجال ولا مكان مهما كبُر أو صغُر. ففي أعماق الحارات القديمة، هناك مؤسسات صغيرة تقدم احتياجات القاطنين والزائرين، وفي أكبر المراكز التجارية، نجد قلادة مُكتملة من المؤسسات الصغيرة والمتوسطة تمثل كياناً تلك المراكز الكبيرة، وفي محطات الوقود على امتداد البسيطة، تقدم المؤسسات الصغيرة والمتوسطة متطلبات إكمال الرحلة بيسر وسهولة، حتى مصانع الأجهزة الكبيرة والسيارات والطائرات لا تعتمد في عملها على نفسها فقط، بل كثيرا ما تُسند بعض الأعمال لمؤسسات صغيرة متخصصة في مجال مُعين أو خدمة معينة. ولهذا فحين تنتشر المؤسسات الصغيرة والمتوسطة في كل الأصقاع وتمخر عباب كل التخصصات، فإنها لا شك تكون الشرايين التي تغذي الحياة المتعددة وتحقق الرفاه الاجتماعي. لكن متى يُحقق القطاعُ الرفاهَ الاجتماعي الحقيقي؟

يُحقق القطاع الرفاه الاجتماعي إذا اكتملت منظومته المترامية بدءًا من التشريعات وانتهاء بالممارسات. وهذ يتطلب العمل على التخلص من المظاهر السيئة التي تضر بالقطاع، وتقوية المظاهر الحسنة التي تخدمه.

إن من أكبر التحديات التي يواجهها القطاع هي تكتلات العمالة الوافدة والتحالفات المستترة، وهذه تقوّض الكثير من جهود الحكومة الرامية إلى دعم الشباب العماني للنهوض بالقطاع، ففي حين تتحايل بعض الشركات الكبرى في تزويد الشباب العُماني بما يحتاجون إليه من سِلَع ومواد لتسهيل عملهم، تجدها في المقابل تمنح هذه التسهيلات للعمالة الوافدة، التي تعتبر وجودها واستمرارها ضمانة لاستمرار هذه الشركات في السوق، لأن تقوية وجود العماني في السوق يعني وجود تحالفات عُمانية ستوجد منافسين لبعض هذه الشركات الكبيرة.     

أما التحدي الثاني، فهو تفضيل المواطنين أنفسهم لتعيين وافدين في مؤسساتهم الصغيرة والمتوسطة لأنهم يضمنون أداءهم لأعمالهم لساعات أطول ولتفرغهم من الالتزامات الاجتماعية، ولأنهم لن يتركوا الوظيفة متى ما وجدوا راتباً أعلى بقليل من الراتب الممنوح لهم، وهذا يقود لمشكلة زيادة العمالة الوافدة وزيادة الباحثين عن عمل من العُمانيين. يزيد من حدة هذا التحدي، تكاسل بعض الشباب العُماني في أداء عمله، مقتنعًا بأن قانون العمل يحميه من الفصل من الوظيفة، ولهذا فهذه الفئة من الشباب تسيئ إلى عموم الشباب العماني المجتهد. أضف إلى ذلك رفض العديد من العمانيين أن يتم تسجيلهم في التأمينات الاجتماعية لأنهم يريدون أن يبقوا في فئة الباحثين عن عمل انتظاراً لوظيفة حكومية قد تأتي بعد أشهر أو سنة أو سنوات، وهو ما يجعل صاحب المؤسسة في قلق من تعيين هذه الفئة.

اشتراط بعض الشباب العماني لرواتب عالية عند التعيين، وعدم تقبلهم لراتب أقل قد يُعرض عليهم، في مقابل أن البعض منهم يقضون أشهرا عديدة في البحث عن عمل، ثم يشتكون من أنهم لا يُمنحون الفرصة للعمل. كما أن البعض، وفور ما يتخرج يجلس في انتظار الوظيفة ويهمل تنمية قدراته ونفسه، ولو بخبرات عمل بسيطة، وبعد سنوات من الانتظار إما ألا يجد الوظيفة التي يطلب لأنه لا يحمل أي نوع من الخبرة نتيجة لرفضه التدرب أو العمل براتب قليل، أو لأنَّ المعرفة العلمية التي اكتسبها في دراسته قد عفا عليها الزمن وتدثرت بأكوام من أتربة الفراغ فحلّت محلها معارف جديدة لم يعمل هو أو هي على اللحاق بها.

إذًا، فإنَّ تجربة العالم حولنا لا يُمكن أن تُحمل على أنها تجربة غير صحيحة في أهمية المؤسسات الصغيرة والمتوسطة، وإن كان هذا هو الحال، فلسنا في حاجة إلى إعادة صناعة الدولاب. فمن أجل أن يتحقق البعد الاستراتيجي لهذا القطاع في السلطنة، هناك حاجة إلى إعادة ترتيب عدد من الأوراق. أولا، من المهم أن تخدم التشريعات هذا القطاع وأن تضع الكفة في صف المؤسسات الصغيرة والمتوسطة العمانية، وعلى أن يتم تفعيل أنظمة للرقابة تحدّ من التجارة المستترة التي لا يظهر فيها العُماني إلا في صور التوقيع، وأن تضمن قيامه بإدارة عمله بنفسه. ثانيًا، أن تُمنح المؤسسات والأفراد المجال للتنافس الواضح بما يحقق الحماية لجميع الأطراف. فلا يمكن أن يحقق القطاع مساهمته في التوظيف ولا في الدخل القومي إلا حين تكون المنظومة مكتملة الجوانب. ثالثًا، على الشباب العماني من أصحاب المؤسسات الصغيرة والمتوسطة ألا ينظروا إلى أقرانهم من العمانيين على أنهم منافسين، بل على أنهم شركاء يخدمون ويسندون بعضهم بعضًا لأنهم إن لم يفعلوا ذلك تشتتوا وضعفوا وغلبهم منافسوهم. رابعًا، على الشباب العماني أن يسلك مسالك العمل ويعمل بجد ليكتسب الخبرة لأنها أحد العوائق البارزة في الوظائف القيادية. كما أن بذل ساعات أكثر في العمل فوق المقررة، ليس من الضرورة أن يكون خسارة للموظف، وإنما خبرة أكبر ومعرفة أكثر واجتهاد يعوّد نفسه عليه يوصِله إلى وظائف أعلى، لأن المؤسسة تبحث عن المجتهد لأنه يحقق لها الأرباح، لا كالموظف الذي يُغادر لأن ساعات العمل انتهت دون أن يحفل بما أنجز.  خامسًا، إن التفاوض من أجل الوصول إلى راتب متفق عليه، هو الطريقة الأجدى من رفض عروض العمل المقدمة، فقط لأنها لا تقدم الراتب أو التسهيلات الكافية، وحين يكون لدى المرء الكفاءة والخبرات والمعارف التي تحتاج إليها مؤسسة بعينها، فإنَّ تلك المؤسسة ستقدم العرض الملائم لأنها تدفع لمنتَجٍ يستحق أن يتم الدفع له.

وأخيرًا، علينا أن نتذكر أن كل ريالٍ يظل في الوطن يضيف لرفاه الوطن، وكل ما خرج أضاف إلى حيثما خرج.    

    تويتر: @abualbadr72

تعليق عبر الفيس بوك