العلاقات التجارية بين موانئ عُمان والبصرة (1749م ـ 1804م)

د. صالح بن عامر الخروصي – سلطنة عُمان - مسقط
تعود العلاقات العـُمانية العراقية في جذورها إلى عصور موغلة في القدم، وقد ارتبطت حضارات بلاد الرافدين بصلات متفاوتة القوة مع عـُمان. وعندما بزغ فجر الإسلام في شبه جزيرة العرب ظهرت مجالات وإمكانيات أرحب للعلاقة بين الطرفين، وفي العصر الأموي كان للوجود العماني في البصرة أثره المعروف في الحياة السياسية والفكرية. وفي مطلع العصر الحديث تعرضت عمان وسواحل الخليج لهيمنة برتغالية استمرت حتى منتصف القرن السابع عشر، ليبدأ فصل جديد من العلاقات بين القوى المحلية والإقليمية في المنطقة وبين القوى الأوربية التي تشكلت بداية من خلال شركة الهند الشرقية.
إن مسمى (إيالة) الذي أطلقه العثمانيون على بغداد يشمل العراق ككل، إلا إن هذه الإيالة انقسمت تدريجيا خلال القرن التاسع عشر إلى ثلاث ولايات: بغداد والبصرة والموصل، أما في الميدان الدولي فكانت تعرف مجتمعة باسم بلاد ما بين النهرين Mesopotamia . ولم تشهد البصرة خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر استقرار إداريا إذ كانت تنفصل أحيانا عن ولاية بغداد، وكانت تبعيتها لبغداد تعتمد على مدى ولاء حاكمها الإداري وطبيعة علاقته بالاتحادين القبليين الكبيرين في شرق البصرة بني كعب والمنتفق.  وكانت مساحة ولاية البصرة آنذاك تقدر ب 150,000كلم2 إذ كانت تشمل الحساء والقطيف وقطر.
وفي نهاية القرن الثامن عشر كانت هناك خمسة أساطيل عربية قوية في الخليج تعود لكل من: بني كعب وبوشهر وبندر ريق والقواسم والعمانيين، وتشكّل هذه الأساطيل أعظم قوة بحرية عربية شهدها تاريخ الخليج، وبالرغم من التفوق الأوربي في عرض البحار إلا أن العرب كانوا في وضع أفضل من خصومهم في مياه الخليج لقدرتهم على المناورة ومعرفتهم بمداخل الخليج وخلجانه في مقابل جهل الأوربيين بذلك نتيجة عدم وجود مسح جغرافي. ورغم أن القوى العربية في الخليج تمكنت من إنزال خسائر فادحة بالبرتغاليين والهولنديين والإنجليز إلا أن طاقاتها كانت مبعثرة، وكان ينقصها الإدراك السليم لمصالحها المشتركة.
لقد شهدت شبه الجزيرة وبلاد الرافدين خلال الربع الأخير من القرن الثامن عشر جملة من الحوادث التي أثرت على الحياة الاقتصادية في المنطقة إلا أن حركة الانتعاش ما لبث أن عادت مع مطلع القرن التاسع عشر بعد الاستقرار الذي عاد إلى الخليج، وقد ذكر الإنجليزي ملبورن Milbourn أنه خلال الفترة (1801- 1806) بلغ إجمالي قيمة السلع المصدرة من الهند إلى الخليج 28.945.253 روبية هندية وبلغت السلع المستوردة 8.669.264 روبية. وكانت السلع الآسيوية القادمة إلى سواحل الخليج العربي والبحر الأحمر تنقل بالقوافل إلى العراق وشبه الجزيرة وإيران وتركيا والشام لتحمل عبر البحرالمتوسط إلى أوروبا. كما كانت موانئ الخليج والبحرالأحمر مراكز لتجميع السلع باتجاه شرق أفريقيا والهند والشرق الأدنى، وعندما وقع معظم هذه التجارة بين أيدي العمانيين وأصبحت مسقط المركز الرئيسي لها غدت بذلك من أهم موانيء المحيط الهندي. وقد ذكر المؤرخ البريطاني لوريمر أن مسقط والبصرة كانتا أهم موانئ المنطقة بالنسبة للتجارة الخارجية، إذ كان أكثر من نصف الواردات من الهند إلى البصرة وبوشهر وجميع الواردات إلى الهند تصل عن طريق مسقط، في حين كانت البضائع الواردة إلى الهند برا من أوربا وتركيا ترد إلى مركزها الرئيسي في البصرة حيث يتم توزيعها.
وقد احتلت التجارة مكانة خاصة في سياسة الإمام أحمد بن سعيد (1749م – 1783م) فعمل جاهدا على الارتقاء بها إلى أعلى المستويات. وفي تلك الفترة قام زعيم قبيلة الزند الفارسية كريم خان بفرض سيطرته تدريجيا على جميع الأقاليم الفارسية منذ عام 1760م، وقد قام في عام 1769م. بمطالبة الإمام أحمد بسداد ما اعتبرها ضريبة مستحقة منذ غزو سلفه نادر شاه لعمان في عام 1744م. إلا أن مطالبته قوبلت بالرفض، فأرسل حملتين إلى عمان في عامي 1769م، و1770م لكنهما باءتا بالفشل، وعندما أدرك عجزه عن تحطيم القوة العمانية ركن إلى الصلح، وفوض لإتمام ذلك الشيخ ناصر آل مذكور حاكم بوشهر في عام 1772م. ولكنه كان يعمل جاهدا لإلحاق الأذى بالعمانيين ورأى أن البصرة هي المكان الأمثل لذلك، لأن جزءً كبيرا من تجارة عمان يتم عبر التبادل مع هذا الميناء، ونظرا لاعتبارات أخرى منها مناصبته العداء للدولة العثمانية في إطار التنافس الفارسي العثماني منذ مطلع القرن السادس عشر. كما أن بني كعب ـ وهم ذوو نفوذ في البصرة ـ رفضوا الالتحاق بجيش كريم خان عندما حاول غزو عمان وذلك بحكم علاقتهم الوثيقة بالعمانيين، وهكذا أقدم كريم خان على محاصرة البصرة خلال الفترة من مارس 1775م. حتى أبريل 1776م، ولم يكن البصريون قد التقطوا أنفاسهم بعد من مما شهدوه طوال عام 1773م. من تفشي أخطر الطواعين في تاريخها الحديث، ولم يجدوا أمام الخطر الفارسي الجديد معينا سوى العمانيين، فوجه الإمام أحمد أسطولا تمكن من اختراق الحصار الفارسي، وقـدم معونة غذائية وتموينية ودعما معنويا لأهل البصرة، إلا أنه لم يتمكن من البقاء طويلا فانسحب منها.  إن قيام عمان بتسيير أسطول قوي يتكون من 34 سفينة كبيرة مزودة بمدافع يتراوح عددها 18و44 مدفعا، وإسناد قيادة هذا الأسطول لهلال أكبر أبناء الإمام أحمد  كان دليلا على الأهمية القصوى التي كانت توليها عمان للبصرة.  ورغم أن الفرس اضطروا إلى توقيع هدنة مع العثمانيين تكفل لهم الانسحاب بسلام من البصرة بعد وفاة كريم خان في 1779م. إلا إن السلطان العثماني عبد الحميد الأول لم ينس الدور العماني في محاولة انقاذ البصرة، فأصدر (فرمانا) يقضي بمنح الإمام مبلغاً سنوياً، بالإضافة إلى توسيع الامتيازات التي يحصل عليها التجار العمانيون في موانئ الدولة العثمانية وخاصة في البصرة.
واستمرت العلاقات الودية بين عمان وحكومة بغداد خلال عهد الإمام سعيد وابنه حمد (1783م -1792م)، وشهدت المبادلات التجارية بين مسقط والبصرة نموا ملحوظا، إذ استعادت البصرة بعد انسحاب الفرس منها مكانتها التجارية المتميزة. وعندما تولى السيد سلطان الحكم (1792م – 1804م) عمل على تعزيز معدلات التبادل التجاري مع البصرة، وذكرت التقارير أنه في العقد الاخير من القرن الثامن عشر وصلت مستويات التجارة في البصرة حدا أعلى مما بلغته طوال النصف الأول من ذلك القرن وذلك لتمتع البصرة في عهد الوالي سليمان باشا الكبير بالاستقرار. ويبدو أن ذلك حفّز على سلطان عقد اتفاقية تجارية مع البصرة بطريقة استيراد مخفضة قدرها 3 % من ثمن التكلفة وهي النسبة التي كان يتمتع بها التجار الأوربيون فقط.
تم تبادل أنواع شتى من البضائع بين تلك الموانيء منها الأقمشة والخيول والتمور التي تعد من أهم حاصلات البصرة الزراعية، ومن أنواعها الحلاوي والخضراوي والزهدي والقنطار والسمران واللذاد وتصدر إلى عـُمان وأرجاء أخرى من شبه الجزيرة بالاضافة إلى أمريكا وبريطانيا وفرنسا. وقد ذكر الرحالة فرانكلين الذي زار البصرة في عام 1786م. أن الحكومة العثمانية كانت تجني فوائد كبيرة من تمور البصرة، وأنه لولا التجارة لما أمكن للبصرة أن تواصل البقاء في مواجهة ما تعرضت له في القرن الثامن عشر من ويلات ومحن. وفيما يتعلق بالسفن العمانية القادمة من ميناء صور فإنها كانت تعود من البصرة وهي محملة بأنواع من التمر وتكون في قوالب مكعبة تسمى (القوصرة) وفي المقابل تبيع السفن الصورية أخشاب الكنلة والليمون المجفف وطينة محلية (طينة العيجة) لغسل الرأس. وكانت الموانئ العمانية تصـّدر إلى البصرة الأسماك وأنواع من الفاكهة المجففة واللبان الذي تشتهر به ظفار.

تعليق عبر الفيس بوك