الشيخ عبد الله الخليلي في عيون معاصريه (2 -2)

سعيد الصقلاوي

في مقالة سابقة استعرضنا تأثيرات الموروث العمانيّ الدينيّ والأدبيّ وبصمة البيئة الطبيعية، والتربيّة الأسريّة والحاضنة الثقافية في مسيرة وسيرة حياة الشاعر الشيخ عبد الله الخليلي وفي هذه المقالة نسوق بعضًا من شهادات معاصريه، وانطباعات قرائه ومريديه، ورؤى مجالسيه حول أدب شاعر عُمان وشيخ البيان، وتفسيرهم بالشرح وبالدرس لمساراته الفكرية، واتجاهاته الأدبية وفي هذا السياق، وقبيل الولوج إلى الشهادات التاريخية كان من الضروري التعريج على الموروثات الثقافية التي أثرت النتاج الفنيّ والأدبي للشيخ عبد الله الخليليّ حيث اتضح لنا من دراسة نتاجه الإبداعيّ وخاصةً في الفن الشعريّ أنه بجانب الموروث الأسري الخاص وماله من تاريخ طويل في مسيرة الحضارة العمانية، كانت هناك العديد من الموروثات الثقافية الأخرى والتي أثْرَتْ وأَثَّرَتْ في تكوين بنيانه الفكريّ، وبنيته الثقافية، ونظرته للحياة، وهي:
أولا - الموروث الديني الذي تشربه في طفولته الباكرة، وعمقه في صباه وشبابه على يد علماء ومشايخ عصره، فضلاً عن تواجده في حصن الأمامة وساحتها.
ثانيا - وكذلك الموروث الأدبي العماني وماله من رحلة طويلة ابتداء بمالك بن فهم ووصولا إلى مازن بن غضوبة، والخليل بن أحمد، وابن دريد، ومرورا على آثار محمد ابن سعيد القلهاتي، والستالي، والكيذاوي، وسليمان النبهاني، واللواح، وراشد بن خميس الحبسي، والمعولي، وابن رزيق، والسالمي، وابن شيخان، وغيرهم من أعلام التراث العماني شعراء ونثراء، وتاريخا، وفقها وفلسفة.
ثالثا - وموروث الأدب العربي بمجاله الواسع كان له تأثيره الخاص على إنتاج الشاعر في نماذجه المختلفة وأجناسه المتعدد منذ العصر الجاهلي، وحتى العصر الحديث، وابتداء بامرئ القيس مرورا بالمتنبئ، وأبي فراس، ومقامات الهمذاني، والحريري ووصولا بالبارودي، وأحمد شوقي، ومطران، واطلاعا على إنتاج حركات التجديد كصلاح عبد الصبور، والسياب ونزار قباني وغيرهم في مسيرة الشعر العربي الحديث، ومن ثم الإفادة من أنماط هذه الحركة في الكتابة القصصية الشعرية وغيرها، وخاصة نموذج الشعر الحر أو ما يسمى بشعر التفعلية.
وكما كان للبيئة الثقافية الأثر الكبير في رفد ثقافة الشاعر وتأصيل مكنوناتها. فإن البيئة الطبيعية كان لها أسهام في إثراء مخيلة الشاعر. تلك البيئة العمانية التي جسدتها مساحة الخضرة في شموخ النخيل المعانقة زرقة السماء والراقصة علي حفيف النسيم، والهامسة إلى نغمات المياه المنسابة في مزامير الجداول والأفلاج، والمنشدة مع الطيور والعصافير لحن الحب والصفاء. وقد وصف ملامح هذه البيئة وذخائرها الشيخ الشاعر بقوله: خرجت ويرفقتي عشرون راكبا من خيرة الرجال، وكانت المواصلات أنذاك بوسائل عادية، إذ لم يكن وجود للسيارات حين ذاك بعُمان فنجد الماشي في الطريق، وصاحب الفرس، والبعير، والحمار منها: المعد للنقل ومنها المذلل للركوب، أما مطايانا فكانت من خيرة الإبل إذ أنها خصصت للوازم الدولة، خرجنا بها نشق الوادي الخصيب من سمائل، وقد تفجر بينابيع الري، وعقدت الترع منه للبلاد وكان وسطه مغعما بالماء العذب الذي فضل عن حاجات البلد، وكانت أخفاف الأبل كأنما تقدح الحجر تارة وتطيش بالماء أخرى، جامعة بذلك بين ضدين لا يعيشان مجتمعين: الماء والنار. فقلنا: ﭽ ﯘ  ﯙ ﯚ   ﯛ  ﯜ  ﯝﭼ (*). ومنذ ذلك اليوم بدا لي أن أقول الشعر وأنا أنظر إلى الماء المنساب، وإلى القسم الآخر المتحجر في صحون الأودية وقد أنعكست به زرقة السماء، وخضرة الشجر.
هذا هو مجال البيئة التي يتحرك في محيطها كل من الشاعر والمتلقي، فهي بيئة ولدت فيها شاعرية الشاعر على أنغام إيقاع حركات الخيول، والجمال، وأنغام حسيس المياه المنسابة في بطن الوادي، وألوان الخضرة والسماء المنعكسة على صحون الماء في أحضان وادي سمائل. مشاهد من عصور غابرة في زمن معاصر. كأن الزمان والمكان كانا ثابتين لم يتغيرا. في حين أن الزمان والمكان في حواضر عربية أخرى كمصر والعراق والشام كانا في حركة متغيرة فلا غرابة إذا لم يدرك كل من البارودي، ومطران، وشوقي، والزهاوي، والرصافي، واليازجي نفس المشاهد أو بنفس القدر من الدقة. ورغم ذلك ظل أثر البيئة العربية بشخوصها القديمة، ماثلا في أشعارهم. ويرى الدكتور أحمد درويش أن مفهوم الشعر ودور الشاعر، ومجال حركته، وصلته بالتراث السابق عليه، وصلته كذلك بالمتلقين من حوله، ظل متأثرا بذلك المناخ ومرتبطا به.
وبقدر ما كانت مظاهر البيئة الطبيعية في عمان فطرية لم تلامسها يد التغيير، والتبديل كذلك كانت مظاهر البيئة الاجتماعية، بما توافر فيها من قيم ومعايير ومفاهيم، وعادات، وتقاليد اجتماعية تتوازى معها وتتجاوب من خلالها مع إبداع المبدع، شعره ونثره، لذا نرى كثيراً من نتاج الشاعر متأثرا ببيئته وتراثه المحلي والعربي، وحاملاً ملامح من مبادئ الإسلام الحنيف. فالتزم نتاجه الحشمة في تناوله الموضوعات والمضامين المختلفة، مع اتسامه بالجرأة في طرح القضايا المتصلة ببيئته ومجتمعه.
والشيخ الشاعر بالرغم من ذيوع شهرته، وبراعته وهمته العالية وفصاحة بيانه في شعره ونثره، إلاَّ أن قسمات شخصيته قد ختمتها البيئة العمانية بخاتم البساطة والتواضع الجم، وأذكت فيها روح النوايا الصادقة التي تأخذ بمكارم الأخلاق ومعالي الأمور، وقد تنبه إلى هذه الميزة في شخصيته الدكتور عبد اللطيف عبد الحليم حيث وصفه بأنه "من شيخة شعراء عمان، ومن أكبرهم قدراً، يذكر قارءة بشيوخ المحافظين في مصر والوطن العربي، لسعة ميدانه وحضور جنانه، كما يضيف بأنه "من جيل يدرك جيداً ذخائر التراث العربي، حفظه وفقهه، وتوفر عليه درساً ووعياً.
الشاعر الخليلي  بعيونهم:
فقد كتب سماحة الشيخ العلامة أحمد الخليلي مفتي السلطنة في مخطوطة ديوان فارس الضاد لشاعرنا المذكور "فإن من المسلم له ممن حاز في حلبة الشعـر قـصبات السبق بيـن شعـراء عـصرنا شاعر عمان الكبيـر الشيـخ العـبقري عبد الله بن علي الخليلي الذي بزّ أقرانه بقريظه المتميـز بجـزالة تركيـبه، ورصانة ألـفـاظه، وبـلاغة معـانـيه، وسعة خياله .وقد طرق معـظـم أغراض الشعـر من حكمة وسلوك ووعظ ومديح واستـنهاض وفخر ونسيـب ورثـاء، فـكان فيـها جميعـاً رامياً أصاب المرمى، وفـارساً يجري ولا يجرى معه، تجد كيف تـنـقـاد له الألـفاظ حتى يستـنـزل أعصمها من مستعـصمه، وتـنساق إليه المعاني كأنما وضعت نواصيـها بيده فروضها بمهارته حتى عاد نفورها أليفاً وشرودها ذلـولا .
وقد نشأ من هذا الـتـناسب في شعـر شاعرنا بيـن مبانيه ومعـانيه انسجام يأسر الألباب، ويأخذ بمجامع الـقـلوب ، بحيث تراه يسيـل رقـة، ويـروق رونقاً، ويـجري عـذوبة مع تـدفـقه بفيض من المعـاني البليغـة "
وكتب الشيخ سليمان بن خلف الخروصي وهو شاعر أديب مؤرخ واسع الشهرة في عمان و من مجايلي شاعرنا في مخطوطة ديوان فارس الضاد للشاعر الشيخ عبد الله الخليلي " وفي هذه الصفحات من الديـوان ـ (فـارس الضاد) ـ يطـلع الـقاريء على شعـر رائع، وأدب بارع، وحكم باهرة، وأمثال سائرة، وتـوحيد وتحـميد وتـقـديس وتمجـيد، وتـضرع وابتهال لله ذي الجـلال، وعـقيدة وجهاد، ونصائح وإرشاد، وسلـوك وتـصوف، وفخر وحماسة، واستـنهاض همم وسياسة، وشذرات قـومية، ومطارحات أدبـية، وقـصص وعِـَبـر، والديـوان كله من أوله إلى آخره درر، والله يـؤتي الحكمة من يشاء، " (ومن يـؤت الحكمة فـقـد أوتي خـيـراً كـثيـراً) " وأضاف في تقديمه لديوان الشاعر (بين الفقه والأدب)  مشيدا به وبشعره وبصدقه لوطنه "فهو من أبرع شعراء عمان استعارة وتشبيها ووصفا، والخليلي محب لبلاده ، صادق الوطنية، جم العطاء، غزير الانتاج، يؤمن بأن لقادة الفكر رسالة إنسانية".
ووصفه الشيخ الفقيه والأديب محمد بن راشد الخصيبي بأنه "شاعر العصر المشهور والمشار اليه بالبنان في كل مكان، تعلم العلم في بلده سمائل وغلب عليه حب الادب والشعر فنبغ فيه ومهر واشتهر، وجاء بأساليبه القديمة والحديثة فكثر شعره وانتشر ودون ولا يزال حليف المعرفة وسمير الآداب ولم يفته نصيبه من علم الفقه، وأما علم الأدب فحدث عن البحر ولا حرج، وله شمائل حسنة وأخلاق وكرم وإحسان".
وتحدث عنه الكاتب والاديب الصحفي ناصر أبوعون عارضا رؤيته الخاصة حول إنتاج الشاعر الشيخ عبدالله الخليلي في قوله: ”أما عن أمير البيان الشاعر عبد الله الخليلي فقد قرأتُ شعره وطالعتُ شيئا من سيرته من مجالسة العديد من شعراء وأدباء عمان وخاصةً الذين آمنوا بالماضي التليد، وتحصنوا بتراثنا العتيد، وأبقوا على شعرة معاوية، وحفظوا الصلة بينهم، وبين  أجدادنا العظام، ومنهم ثلة يزنون الكلام بموازين الذهب والأحجار الكريمة، ويرون في التواصل مع تاريخنا العربي القديم صلة رحم، وأصالة فطرية، واتصالا بالإبداع، ونجوا من مرضٍ عضال ضرب جذور ثقافتنا صدّرته إلينا (النخبة النكبة) ممن تمسحوا بالتجديد وادّعوا الحداثة، وروجوا لنظرية (قتل الأب).
عرفتُ عبد الله الخليلي شاعرا فطريا تمكَّنت منه صنعة الشعر فخبرها، وراح يزن كلماته على منوالها، ويدبج صورها على مقاييسها، ويصوغ حروفه على ميزانها، يداعب أصدقاءه شعرا، ويمازح جلساءه رَجَزا، ويحاور رفقاءه قافيةً وعروضًا، ويسامرُ أبناءه فنًا، ويكتب رأيه وفِقْهَه قصائدَ تترى تؤرخ لسلطنةِ عُمان (تاريخا وفكرا)، ويسجِّل أفكاره على مثال القدماء، ويعارض شعراء العصور الإسلامية وما قبلها حرفًا وقافيةً، وينسج على عيون الشعر العربي ملاحم تفتن القارئ وتأخذه إلى الشعرية المسبوكة على قوالب خاصة. وفي هذا الفن نجح الخليل في تخميس «بردة البوصيري» بثلاثة أوجه، وضمَّها في ديوان متكامل أسماه «المجتليات»، وهو عمل فريد في تخميسه لهذه القصيدة الطويلة، كما حاول تخميس «همزية البوصيري» ولكنه لم ينجزها، بسبب مصارعته للمرض.
وفي مراسلاته الشعرية خير مثال على ما قدّمنا فقد كان يتخذ من الشعر وسيلة لمراسلة العلماء والشعراء، وقد راسل عددًا من الأعلام العرب كـعز الدين التنوخي، وله ديوان "بين الفقه والأدب" يحوي قصائد فيها أسئلة وأجوبة بين الشاعر وغيره، ومن قصائده (سؤال للشيخ حمد السليمي) الذي بادره بالجواب بقصيدة تجاري سؤاله، وقصيدة (هبة العليم) التي قرّض فيها كتبًا أربعة لشيخه خلفان بن جميل السيابي وهي (سلك الدر، وفصول الأصول، وبهجة المجالس).
وإذا كان لكل شاعر سمة يتفرّد بها على أقران عصره فإن الشاعر عبد الخليلي (1922 ــ 2000م) الذي عاش حياة حافلة بالشعر والأدب والفلسفة والتتبع الثقافي فاتسعت مداركه ومواهبه واتسعت دائرة إبداعه. له ـ من وجهة نظري ـ السبق التاريخي في ريادة الشعر المسرحي في سلطنة عُمان، حيث قدم مسرحية (جذيمة والملك) التي استقى أحداثها من عصر ما قبل الإسلام مستغلا معرفته بالسرد القصصي”
وفي مقاله (خواطر وذكريا ت معه هكذا تحدث الخليلي) يقول الإعلامي عبد الوهاب قتاية "واستقبلني الشيخ في بيته بمودة وسرعان ما وجدتني في حالة توافق حميم كأننا أصدقاء من قديم. كنت أراه شيخا نبيلا، تكسوه هالة قوية في مزيج من المهابة والبهاء والطيبة والوداعة، والفطرة والسماحة ورحابة الفكر والجلال. وقد لفت نظري، وأسرني إيمانه بقيمة الكلمة، واعتزازه بالشعر، إبداعا ورسالة ومسئولية، الأمر الذي جعله حساس الضمير، شديد التدقيق فيما يقول".
وختاما فإن سيرة الشاعر الشيخ عبد الله الخليلي حافلة بإيقاع الحياة زاخرة بعطائها الفكري والثقافي والأدبي والاجتماعى والسياسي وبخاصة أنه عاصر أحداثا مهمة في تاريخ عمان فقد زامنت طفولته عهد السلطان تيمور بن فيصل (١٩١٧ـ١٩٣٢م) ويفاعته وشبابه في عهد السلطان سعيد بن تيمور (١٩٣٢ـ ١٩٧٠م) وساهم في مسيرة النهضة العمانية التى أطلقها السلطان قابوس بن سعيد منذ عام ١٩٧٠م معطيا خبرته وباثا ثقافته إلى أن قضى الله أمره وستوفى أمانته. وفي المقابل كانت هذه الفترة أيضا التى عاشها الشاعر الشيخ الخليلي تناوب عليها أئمة منهم عمه الإمام محمد بن عبد الله الخليلي والإمام غالب بن علي الهنائي. و قعت فيها أحداث سياسية داخلية وأخرى بتأثير خارجى على عمان وضارة بها. كان الشاعر شاهدا عليها انعكست على شعره و حاول توظيفها في شعره لم تسعفنا هذه العجالة للتطرق إليها . كما أن الشاعر لم يغب أبدا عن أحداث محيطه وأمته وكان في كل الظروف والأحوال مشاركا وداعما للخيرية فيها.

تعليق عبر الفيس بوك