التعقيدُ ثقافة..!!

 

د. صالح الفهدي

 

باتَ من المُسلَّمِ به أنَّ التعقيدَ ثقافة في مجتمعنا، وأنّ أمراً لا يُعقّدُ هو استثناءٌ من هذه القاعدة..!! في الوقت الذي يشكّلُ التعقيد سمةً مناقضةً لسماتنا الشخصية التي نزعمُ أنّها تتسمُ بالبساطةِ والأريحية..!! لا يمكنُ لموضوعٍ بعينهِ، أو إجراءٍ مُحدّدٍ أن يمرَّ دون تعقيدٍ في عملية اتخاذِ القرارِ أو تأخيرٍ في الوقت، الأمر الذي تسبّبَ في إشكاليات تنمويةٍ لا يعي آثارها –للأسف- كل من يُمارسُ التعقيد بحرفيةٍ متقنةٍ، وبأساليبَ بالغةٍ في القِدم..!

كما أنَّ هذا هو حديثُ النّاسِ أينما ولوّا قِبلتهم في إنجازِ مُعاملةٍ، أو مُتابعةِ مصلحة..! والسؤالُ المُشرعُ هنا: لصالحِ من هذا التعقيد؟! هل يُجيبني أحدٌ فيقول: لصالح الوطن..!! أكادُ أسمعُ الإنكار الصريح من القاريءِ، لأنَّ الوطنَ قد تضرّرَ كثيراً بمُمارسةِ التعقيدِ في أغلبِ المصالحِ، وأكثرِ المشاريعِ في زمن التَّسارعِ التقني الذي قدّم الحلول الذكيّة لحكومةٍ ذكيّة تعملُ وفق أنظمةٍ وآلياتٍ غايةٍ في السرعةِ، والدقّةِ، والإنجاز.

تضرّرَ الوطن الذي يُحفِّزُ على المشاركة الوطنية في بنائهِ وتنميتهِ، فيهبُّ كل صاحبِ عزيمةٍ وطموح، ليشرع في وضع أهدافٍ، وتخطيط رؤيةٍ لمشروعٍ صغير، يصبُّ في مصلحةِ اقتصادِ الوطن، فإذا به يواجَهُ بتعقيداتٍ لا قِبلَ له بها، وبرسومٍ تتوالى من كلِّ حَدبٍ وصوب، فيصبحُ كالذي يجدِّف في عبابِ بحرٍ مضطربِ الموجِ، هائجِ الريح، يحاولُ جاهداً أن يدفعَ نفسه خارجَ هذه الأنواء الصاخبة..!

موظّفٌ قاعدٌ على مكتبهِ يُملي شرطاً إثرَ آخر، وطلباً تلو آخر، وإنساناً طموحاً يذرعُ الشوارعَ والطرقات جيئةً وذهاباً، تدفعهُ الطموحات، وتحبطهُ التعقيدات..! فإمّا أن يتمتّع بالصبرِ الطويل على المشقّةِ، وإمّا أن يسلّم الأمرَ فيتنازلُ عنه وهو حسير..!!

منذ عدّة سنواتٍ قام أحد المسؤولين ببحثٍ ميداني، تتبّع خلاله المُعاملات فوجدها تتسلقُ من مكتبٍ إلى مكتبٍ حسب المستويات الإدارية ابتداءً من مكتب الاستعلامات حتى مكتب الوزير، ثم تنزلُ مرّة أُخرى لتستقرَّ في يد أحد الفنيين في ولايةٍ من الولايات..! دورةٌ من الزمنِ تتراوحُ بين (6) أشهرٍ، إلى (6) سنوات..!! لقد وجد هذا المسؤول أنَّ متخذ القرار الفعلي هو "الموظف الفني" الذي يقعُ في طرفِ القائمة من الجهةِ الأُخرى نزولاً، وأنَّ ما يفعلهُ غيره من المسؤولين ليس أكثر من الإحالةِ إلى المستوى الإداري الأرفع، والتوقيع عليه وعكس ذلك هبوطاً..!. كان سؤال بحثه هو: لماذا لا يُحال الطلب من كاتب الاستعلامات إلى مُتخذ القرار مُباشرة (الفني)، دون مروره بسلسلة من الأفراد من كاتب إداري إلى رئيس قسم، فنائب المُدير، فالمدير، فنائب المُدير العام، فالمُدير العام، ومنه إلى الوكيل (وربّما الوزير) ونزولاً إلى  المدير العام في المديرية بالمُحافظة، فالمدير، فالنائبُ، فرئيس القسم، وأخيراً تقعُ في يدي صاحب القرار في الميدان وهو الفني..!!، متسائلاً عن سبب علة وجود هذه السلسلة من (غير) مُتخذي القرار، حيث يمكنُ اتخاذ قرار عبر نظام إلكتروني من موظف الاستعلامات (أو من هم في وضعه الوظيفي)، إلى المعني بالأمر، واتخاذ ردٍّ سريع سلباً أو إيجاباً في اليومِ ذاته.. إنما يبدو تطبيقِ الأمر بهذه الصورةِ صعباً، لأنَّ كثيرين سيفقدون وظائفهم، أو ستضعفُ سلطاتهم في أقل تقدير لأنها قائمة على الاستقبال والتحويل بما في ذلك من مظاهرِ السطوةِ والسلطة..!

علينا أن نكون في غايةِ الصراحةِ في شأنٍ يتعلّقُ بالوطنِ ويرتهنُ بتقدّمه، وتطوّره، فالحالُ لم يعد مقبولاً على الإطلاقِ في وقتٍ نحتاجُ فيه إلى تسهيلِ الإجراءات، وتيسير المعاملات لانتعاش الاقتصاد، وتشجيع المُبادرين من أبناءِ الوطن، واستقطاب المستثمرين من الخارج، حيثُ إننا نشعرُ بغصصٍ من قصص..! قصص مُغادرة مستثمرين تواجههم تعقيداتٌ هائلة، وإنهاءُ أعمالٍ قائمة بسبب الإبطاءِ في الإجراءات..! ناهيكم عن القصص اليومية لكلّ مواطنٍ له مصلحة في جهةٍ حكومية، إذ لا تكاد مصلحةٌ من المصالح تنجزُ بيسرٍ وسلاسةٍ دونما تعقيد إداري يُلقى على القوانين واللوائح وكأنّما هذه الأخيرة دون روح، وكأنما هي لا تقصدُ في نهاية المطافِ قضاء مصالح المواطنين..!

يُخبرني أحد المديرين التنفيذيين لإحدى الشركات العاملة في البلاد أنَّ الشركة قررت أن تفتح لها فرعاً بمساحةٍ شاسعة سيوفّر بلا شك فرصاً لتوظيف باحثين عن العمل، فقامت بشراءِ الأرضِ، لكن تعطّل إصدار تصريحٍ من إحدى الوزاراتِ لما يُقاربُ العام بسبب (ثقافة التعقيد) المترسّخة في العقلية العاملة، وحين أُصدر التصريح بمتابعةٍ حثيثةٍ منه لهذا المسؤول وذاك صدر التصريح الذي تأخر عاماً بحاله وتم دفع (3) ريالات عُمانية..!!

ويتساءل الواحدُ منِّا: لصالحِ من تعقّد الإجراءات الإدارية؟! فهل يعلم هذا الذي يؤخرُ في مصالحِ البشر أنّه يؤخر تنمية وطنه، ويضعفُ من اقتصاده؟! هل يعلمُ أنَّه بتباطئه إنما يسيءُ إلى أمانته التي وضعها الوطنُ، واستأمنهُ عليها ربّه؟! أفلا يرفعُ هذا الموظف ومن على شاكلته من المسؤولين رؤوسهم إلى مصلحةٍ وطنية تقتضي الدفع بكل ما يُسهم في تسريع عجلة التنمية والتطوير قُدماً بفعاليةٍ..؟!

إنني هنا ولأوَّل مرّة سأتحدث عن "وحدة تنفيذ" فأقولُ إنَّ الأفكار لن تكون إبداعية ما لم تثبت نجاحها في الواقع..! وأن التجارب التي قد تكون ناجحةً في بلدٍ من البلدان ليس بالضرورةِ أن يكتب لها النجاح في بلدٍ آخر، كحالِ الفسيلة التي تنقلُ من تربةٍ لأخرى. فالتجاربُ التي نجحت في بلدٍ قد يُنسبُ نجاحها إلى مجموعةِ عوامل تشكّل منظومة لا يشذُّ منها عاملٌ إلاّ اختلت، وانفلت عقدها..! ولهذا فإنَّ ضرورة توفر هذه العوامل من الأهمية بمكان لنجاح التجارب الدولية المُراد الاستفادةِ منها. الأمر الآخر هو أنَّ التغيير ما لم يلمس المصلحة المباشر للمواطن فلن يكون له أثرٌ على واقعه، وسيكون مجرّد حراكٍ شكلي غير مؤثّر، ولهذا فإنَّ ثقافة التعقيد يجبُ أن تتلاشى وتمحق من الأنظمة الإدارية، والتصوّر القيادي القائم على التَّدخل في التفاصيل، بتفعيل برامج وطنية شاملة ذات صيغ ثقافية، ومعلوماتية مُتقدّمة ذات فاعلية عميقة وليست بطريقة الترقيع، والحلول الجزئية..!.

من المؤسف أن نجدَ في عصر الثورة التقنية، والمنظمات الأفقية (Flat organizations)، والذكاء الاصطناعي (Artificial Intelligence) من يقول: إنَّ تسليم علائم لأرضٍ يستغرق عامين..! أو من يكدّسُ آلاف الملفات الورقية بطريقة فوضوية في المخازن، أو من يفرضُ عليك إقامة الجدران للتقسيمات الإدارية، أو من يستهلكُ وقتك في اشتراطات عفا عليها الزّمن..! 

يقول الراحل د. غازي القصيبي في كتابه (حياة في الإدارة): "الإصلاح الإداري الفعَّال يستطيع أن يقضي على التسيب والتعقيد وكثير من الفساد ولكنه في غياب التجهيزات الأساسية الضرورية لا يستطيع تقديم خدمات عامة تذكر". لهذا فإنَّ شمولية الإصلاح الإداري بجميع عناصره البشرية والتقنية بات أمراً ملحّاً لأننا في عصرٍ لا يقبلُ إلاّ بالأتمتة أو  المكننة (Automation) من أجل تحقيق التوافق ومسايرة الطرف الآخر الممتلك للتقنيات العصرية المتطورة. علينا أن نقوم بذلك إن كنّا نؤمنُ يقيناً بأهمية المُستقبل، وضرورة تلبية متطلبات المنهجية التي يسيرُ على ضوئها كل من أراد السيرَ في طريقه الواضح يقول ألفن توفلر في كتابه (صدمة المُستقبل): "إنَّ التسارع العام للحياة يفرض علينا أن نمد من أفقنا الزمني، أو المخاطرة بأن تفاجئنا وتكتسحنا الأحداث. فمع تسارع الأحداث تزداد حاجتنا إلى المُستقبلية".

إن تطلّعنا نحو المستقبل وإيماننا به هو القاعدة التي ننطلقُ منها إزاءَ التغيير الجريء في أنظمتنا الإدارية خاصة حيث باتت البيروقراطية عبئاً ثقيلاً عليها ترزح تحته دون قدرة على الحراك. وأصبح لزاماً التحرر من أحمالها بغية السيرِ نحو المُستقبل بخفّة وسرعة.

الوطنُ بحاجةٍ إلى كل ما يُسهم في نموّهِ وارتقائه، وتطوره وازدهاره، ولهذا يتوجّبُ أن تتخذُ القرارات وتعدّل القوانين بصورةٍ لا تقبل التأجيل، وعلى رأس ذلك التخلصُ من "ثقافة التعقيد" التي أصبحت حجراً صلداً في طريق كل طموحٍ مدفوعٍ بالقدرةِ على العطاء يريدُ الإسهامَ في مجالات التنمية المُختلفة.

إنَّ رؤيةَ المشاريعَ وهي تقوم، والمصانعَ وهي تعمل، والشركات وهي تُنشأ، والأسواق وهي تعجُّ بالبشر، والمستثمرين وهم يتدفّقون، لهي صورٌ تبهجُ نفس المواطن المحبّ لازدهار وطنه، إذ لا يحرّك وطناً من الأوطان إلا الاقتصاد، ولا يركده ويخمده إلا الاقتصاد نفسه، وهذا لا يتأتّى إلا بوجودِ قيادات تمتلكُ من العقليات (المتفتّحة) التي تمكِّنها من التغيير، معضدةً بصلاحيات تمكّنها من اتخاذ القرارات النافذة، حينها لن تقفَ في طريق الوطن عقبة، ولن تعيقه منغصّات ومطبّات.

إننا ولكي نكون واقعيين في فهمنا ووعينا لطبيعة العصر، وطرق التعاطي مع وسائل المعيشة والتطوير فيه، يجب أن نكون واقعيين أيضاً في سياساتنا، ورؤانا من منطلق الفكرة القائلة "إنَّ الأفكار لن تكون مبدعة حتى تثبت نفسها على الواقع".. ولهذا فإنَّ أهميّة اتخاذ إجراءات تصحيحية للمسارات، وتقويم السياسات الاقتصادية خطوات لازمة لا جدال فيها، ولم تعُد قائمة على الخيارات وإنما قائمة على إلزامية التطبيق لأجل وطنٍ معطاءٍ، قدّمَ الكثيرَ لأبنائه من أمنٍ، وكرامةٍ، وحريّةٍ، وسيادةٍ، وطموحات ليس لها حدود.