من التطبيع إلى "الهيستريا" والعكس..

"لا دبلوماسية" واشنطن وموسكو تستحضر "عفريت الحرب الباردة"

 

  • تكرار مسلسل العقوبات والرد عليها يثبت أنَّ الحرب الباردة لم تنته بانتهاء زمن الاتحاد السوفييتي
  • الأزمة الأخيرة ظاهرها الدبلوماسية وباطنها التنافس الاقتصادي والتحرشات العسكرية
  • القدرة على "تحضير العفريت" لا تعني بالضرورة القدرة على صرفه في حرب السفارات والقنصليات
  • واشنطن وموسكو تتبادلان الاتهامات حول منبع الأزمة: العقوبات أم أوكرنيا؟
  • تحت شعار "المُعاملة بالمثل".. أمريكا تحتفظ بحق الرد وروسيا تلوّح برد جديد على "حق الرد"!
  • السفارة الروسية تتمسك بما تبقى من ثوب الدبلوماسية البالي: لن ننزلق للهيستيريا
  • واشنطن تحاول بسهم العقوبات تحقيق ما عجزت عن تحقيقه بالقوة العسكرية

 

الرؤية – هيثم الغيتاوي والوكالات

 

لأنَّ "الحرب الباردة" لم تنته بانتهاء زمن الاتحاد السوفييتي، تتجدد الأزمات بين الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا، وريثة الاتحاد السوفييتي، في قضايا ظاهرها الدبلوماسية وباطنها الاقتصاد والتنافس العسكري، وعلى ما يبدو لن يكون آخرها تلك الأزمة التي اشتعلت مؤخرًا بعد إغلاق واشنطن القنصلية الروسية فى سان فرانسيسكو ردًا على تقليص عدد أفراد السفارة الأمريكية في موسكو، في ظل تصاعد حدة النبرة المستخدمة بين جانبين لا يدركان أن القدرة على "تحضير العفريت" لا تعني بالضرورة القدرة على صرفه!

قال وزير خارجية روسيا، سيرجى لافروف، أول أمس إن بلاده سترد بقوة على أي إجراءات أمريكية تهدف إلى الإضرار بها، وذلك بعد إعلان وزارة الخارجية الأمريكية الخميس الماضي، أنَّ الولايات المتحدة طلبت من روسيا إغلاق قنصليتها فى سان فرانسيسكو وملحقيتين دبلوماسيتين فى واشنطن ونيويورك رداً على قرار الكرملين تقليص البعثة الدبلوماسية الأمريكية فى روسيا.

وقال لافروف، في كلمة ألقاها أمام طلبة روس، إن الولايات المتحدة لم تمهل موسكو سوى 48 ساعة، وأشار إلى أن بلاده قد تبحث مسألة تقليص عدد العاملين فى السفارة الأمريكية مجددًا، في تعميق لأسباب الأزمة. وقال لافروف، "سنرد بمجرد أن ننتهي من تحليلنا"، وأضاف: "لكنني أود القول إننا لم نكن نحن البادئين بقصة العقوبات المتبادلة هذه. بدأتها إدارة أوباما بغرض تقويض العلاقات الأمريكية الروسية وعدم السماح لإدارة ترامب بطرح أفكار بناءة أو الوفاء بتعهداته قبل انتخابه"، وتابع "سنرد بقوة على ما يضرنا".

ومن جانبها، أعلنت المتحدثة الرسمية باسم وزارة الخارجية الروسية، ماريا زاخاروفا، مساء الجمعة، أن أجهزة الأمن الأمريكية، أجرت تفتيشا فى القنصلية العامة الروسية فى سان فرانسيسكو، بما فى ذلك الشقق السكنية للدبلوماسيين وموظفي السفارة الذين يتمتعون بحصانة، وطالبوا الموظفين والدبلوماسيين وعائلاتهم، بما في ذلك الأطفال القصر وحتى الرضع، بإخلاء المكان خلال التفتيش. وأضافت: "الحديث يجري عن اقتحام القنصلية ومساكن الدبلوماسيين بل وطردهم لكي لا يزعجوا وكلاء مكتب التحقيقات الفدرالي".

وأشارت زاخاروفا، إلى أن موسكو تعرب عن احتجاجها الشديد على إغلاق المرافق الدبلوماسية الروسية في الولايات المتحدة، وتحتفظ لنفسها بإمكانية الرد. وتابعت قائلة: "القرار الأمريكي بإغلاق المرافق الدبلوماسية الروسية يقوض أي تعاون بين البلدين، بما في ذلك في القضايا الدولية الملحة".

وصرح مساعد الرئيس الروسي يوري أوشاكوف، بأن روسيا فقدت خمسة من ممتلكاتها الدبلوماسية، وواحدة مستأجرة واصفًا الحادثة بـ "الاستحواذ" رغم أنها محمية وفق الحصانات الدبلوماسية والقوانين الدولية، حيث لم تكتف واشنطن بإغلاق المقار الروسية لديها بل استحوذت عليها لصالحها.

وأعلنت السفارة الروسية لدى الولايات المتحدة، أول أمس، تعليقًا على قرار واشنطن إغلاق القنصلية والمرافق الدبلوماسية أن روسيا لا تعتزم الإنزلاق إلى الهستيريا وإلى حافة المواجهة مع الولايات المتحدة، وستستمر بالعمل لصالح البلدين.

وأشار الدبلوماسيون الروس في بيانهم، إلى أن الجانب الروسي، "مازال يعول على أن يتحقق في نهاية المطاف، تنفيذ تصريحات القيادة الأمريكية بشأن السعي لتطبيع العلاقات الثنائية".

وكانت قد أمرت موسكو الشهر الماضى الولايات المتحدة بخفض عدد موظفيها الدبلوماسيين والفنيين في روسيا بأكثر من النصف إلى 455 فردًا بعد أن صدق الكونجرس بأغلبية ساحقة على عقوبات جديدة ضد روسيا.

وقالت هيذر ناويرت المتحدثة باسم الخارجية الأمريكية في بيان الخميس الماضي "نعتقد أن هذا الإجراء كان غير مبرر ومضرا بالعلاقات بشكل عام بين بلدينا". وأضافت "في إطار روح المعاملة بالمثل التي استحضرتها روسيا نطلب من الحكومة الروسية إغلاق قنصليتها العامة في سان فرانسيسكو وملحقية سفارة فى العاصمة واشنطن وملحقية قنصلية في مدينة نيويورك.. ينبغى إتمام عمليات الإغلاق خلال 48 ساعة".

وكان الرئيس الروسي فلاديمير بوتن قد طلب من واشنطن في 30 يوليو الماضي خفض 755 من العاملين بالسفارة والقنصلية وعددهم 1200 بحلول سبتمبر. وأعرب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عن الشكر إلى نظيره الروسي على خفض عدد العاملين بالبعثة الأمريكية الدبلوماسية في روسيا، قائلاً: "لأن لدينا الآن موظفين أقل برواتب أقل". 

وفي ظل الإغلاق المتبادل للمقار الدبلوماسية من قبل البلدين تتزايد المخاوف من أن يفقد البلدان وسائل التواصل والتهدئة بينهما مما يسهم في تصعيد الأمور بين الجانبين ويزيد الأزمة تعقيداً بعد حجز واشنطن على الممتلكات الدبلوماسية الروسية، وهو ما قد تقابله موسكو بتصرف مماثل مما يدفع لاتخاذ خطوات أكثر تصعيداً تنعكس على علاقتهما بالدول الأخرى، وخلق حلقة جديدة من الاستقطابات في العالم.

 

من الاقتصاد للدبلوماسية.. العقوبات مفرخة للأزمات

 

ويرجع المحللون تصاعد الأزمة الدبلوماسية في الأصل إلى أن الكيل الروسي طفح من الأسلوب الأمريكي في فرض العقوبات على موسكو، خصوصا بعد تصويت الكونجرس الأمريكي بشبه إجماع على قرار فرض عقوبات جديدة على موسكو مؤخرا، لتدخلها المزعوم في الانتخابات الرئاسية الأمريكية الأخيرة، وهو ما علق عليه الرئيس الروسي حينها بوصفه "خطوة وقحة" ودليل على مضي الولايات المتحدة في سياستها العدوانية التي لا تحترم القوانين والاتفاقيات الدولية.

ولوحت روسيا حينها باتخاذ تدابير عقابية مماثلة في مواجهة العقوبات الأمريكية، ووصف بوتين إصرار أمريكا على اتهاماتها لروسيا بالتدخل في انتخابات الرئاسة الأمريكية بأنها "هستيريا" وقال إنها ناجمة عن الصراعات داخل الدوائر الأمريكية.

ويرى مراقبون أنَّ سلاح العقوبات أصبح الملاذ الوحيد للولايات المتحدة الذي تستخدمه كلما عجزت عن منافسة روسيا أو تحقيق أهدافها بضرب النفوذ الروسي، سواء في الشرق الأوسط أو في دول البلطيق، الأمر الذي يعني أن سهم العقوبات ينطلق من أمريكا إلى موسكو ليحقق ما عجزت واشنطن عن تحقيقه بالقوة العسكرية، سواء في سوريا وأوكرانيا أو العراق وغيرها، أو تحجيم النفوذ الروسي الذي أصبح يمثل تهديدًا ضخمًا لأمريكا.

 

التهديد بالحرب.. هل يعني قُربها؟

حتى الآن، تبقى التصريحات الاستفزازية على الجانبين مُجرد تصريحات أمام الميكروفونات، لكن ذلك لم يمنع تلميحات عن مواجهات أمام فوهات المدافع، فقد سبق وقال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، إنه في حال حدوث حرب مُباشرة بين روسيا والولايات المتحدة فلن يبقى أحد على قيد الحياة، وإن قال في الوقت نفسه إنه "دائماً يأمل أن تتحسن العلاقات، ولا يفقد أبداً ذلك الأمل"

وألمح بوتين أكثر من مرة إلى استمرار توابع الحرب الباردة بسؤاله: طالما أن الكتلة الشرقية لم تعد موجودة، ولا يوجد الاتحاد السوفيتي، فما هو الهدف من استمرار حلف الناتو؟ وتابع: "أعتقد أن الناتو يحتاج إلى عدو خارجي من أجل تبرير وجوده، وهو يبحث باستمرار عن عدو خارجي ويقوم بإثارة استفزازات بغية تمكينه من تسمية طرف ما بأنه العدو.
 

لذلك فإنَّ موسكو تعتبر الوجود العسكري الأمريكي في منطقة الخليج العربي، وفي أفغانستان، وفي جمهوريات آسيوية إسلامية، وفي شرق آسيا، تطويقًا شاملًا للأمن الروسي، ويتكامل مع امتداد حلف الناتو في أوروبا الشرقية، الأمر الذي يجعل موسكو تحذر من سياسة واشنطن العاملة على نشر منظومة الدرع الصاروخية في عددٍ من الدول، بل وتعتبر ذلك تهديدًا للأمن القومي الروسي، فوفق تصريحات حديثة لوزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو، فمنذ العام 2013 أقام الجيش الروسي منطقة عسكرية مُتاخمة لجنوب أوكرانيا، وكذلك في منطقة شمال القوقاز المضطربة، وتعود عملية التعاظم العسكري لموسكو في المنطقة رداً على الوجود العسكري المُتزايد لحلف شمال الأطلسي في أوروبا الشرقية.

وبحسب بيان لوزارة الخارجية الأمريكية حول سباق التسلح الروسي فإنَّ ميزان القوى النووية بين روسيا والولايات المتحدة الأمريكية بات مستقيما للمرة الأولى منذ بداية الألفية الثالثة. وكانت الولايات المتحدة تتفوق على روسيا في عدد الرؤوس النووية التي تحملها الصواريخ العابرة للقارات والغواصات والطائرات. وقد تعهدت موسكو وواشنطن، حين وقّعتا اتفاقية تخفيض الأسلحة الهجومية الاستراتيجية في 2010، بتبادل المعلومات عن أسلحتهما النووية مرتين في السنة. وأفاد بيان الخارجية الأمريكية أن الولايات المتحدة تمتلك 778 وسيلة لحمل الأسلحة النووية و1585 رأسا نوويًا، بينما تمتلك روسيا 498 وسيلة لحمل الأسلحة النووية و1512 رأسا نوويا.

وفي المقابل، قال مايكل هايدن، المدير الأسبق لوكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية ومدير وكالة الأمن القومي في عهد الرئيس الأمريكي الأسبق، جورج بوش، إن موسكو ستكون في موقف ضعف إن تطور سيناريو الحرب، وقال الجنرال المتقاعد في مقابلة مع سي إن إن: لا يريد أحد دخول حرب مع الروس، لكن اسمحوا لي أن أتحدث عن مفهوم آخر، الروس لا يريدون حقا دخول حرب معنا. إنهم إلى حد بعيد القوة الأضعف. وانتقد هايدن روسيا بعد رصد وجود اثنين من قاذفاتها قبالة سواحل ولاية ألاسكا الأمريكية مرتين خلال 24 ساعة. ووصفها بأنها "مثيرة للشفقة"، لكنه قال إن ذلك وفر "فرصة عظيمة لتدريب القوات الجوية الأمريكية في ألاسكا".

وهي تصريحات استدعت تعليقات مضادة من الأذرع الإعلامية لموسكو بمختلف اللغات، والترويج لتصريحات "خبراء استراتيجيون" في الجيش الأمريكي بتوقع صدام مُباشر خلال السنوات الخمس المُقبلة، وهو ما علق عليه مدير معهد ليكسينغتون لورين تومبسون في مقالة بمجلة "فوربس"، بقوله إن المقصود هو الصدام مع روسيا التي تعمل في السنوات الأخيرة بشكل حثيث لتطوير وتحديث قواتها المسلحة. ويرى الخبير أن الحرب الافتراضية ضد روسيا ستعتمد بشكل أساسي على التقدم السريع والحاسم للقوات البرية عبر مساحات واسعة من الأراضي.

وأكد تومبسون أن الخسارة ستكون من نصيب الولايات المتحدة في هذه الحرب لو وقعت مرجعًا توقعاته إلى عوامل أهمها: الأخطاء الاستراتيجية التي وقع فيها جورج بوش وباراك أوباما وعدم وجود التمويل الكافي للقوات المسلحة، فقد أخطأ بوش الابن، بسحبه اثنين من الألوية الأمريكية المزودة بالسلاح الثقيل من أوروبا، وأما غلطة أوباما فهي مراهنته على منطقة آسيا والمحيط الهادئ وهو ما أدى إلى تقلص الوجود العسكري الأمريكي في العالم القديم. وزعم الخبير بأن روسيا تنفق على تطوير قواتها أكثر من الولايات المتحدة — الأخيرة تنفق 22 مليار دولار في العام لتزويد جيشها بالسلاح الجديد، أما روسيا فقد خصصت لتمويل برنامج إعادة تسليح جيشها خلال 10 سنوات 700 مليار دولار وغالبية هذا المال سينفق على تطوير القوات البرية وسلاح الجو.

ويلفت تومبسون إلى تفوق روسيا جغرافيا على خصومها لأن القتال سيقع على الأغلب في دول أوروبا الشرقية البعيدة عن نقاط إنزال القوات الأمريكية في أوروبا. ويمكن لروسيا أن تغلق بسهولة الممرات والمضائق البحرية لمنع عبور القوات الأمريكية إلى دول جنوب أوروبا. وقد يضطر الجيش الأمريكي للدخول في مواجهة مع نظيره الروسي لوحده بسبب التردد بين الحلفاء في الناتو، الذي يملك التفوق العددي بالمقارنة مع الجيش الروسي، ولكن هناك احتمال كبير في أن تتردد دول الحلف في غرب أوروبا وترفض الدخول في حرب دامية ومُدمرة ضد روسيا من أجل الشركاء في البلطيق أو من أجل أوكرانيا التي لا تنتمي أصلاً للحلف. وسيضعف موقف الحلف كثيرا لو اعتمدت واشنطن على التكتيك الدفاعي ولم تقدم على مهاجمة القواعد والقوات داخل أراضي روسيا نفسها.

تعليق عبر الفيس بوك