تشكيل ثقافة المجتمع

 

مازن الغافري

الأيديولوجيا

إنَّ كلَّ المجتمعات تقُوم على مجموعة من الأسس، والأفكار، والمبادئ التي ترسم لها إطارا تعريفيا عامًّا، وشاملًا مُتعارفًا عليه حول ثقافة ذلك المجتمع، ومن خلال هذه الأسس والأفكار، والمبادئ ينطلق المجتمع ككل نحو بناء تصوُّراته، واعتقاداته عن الأشياء من حوله، وعن الآخر ضمن دائرة مُغلقة لا يمكن اختراقها إلا من خلال تغيير فكر المجتمع ككل.

رُبَّما يطلق على ما تحدَّثت عنه سابقا بالأيديولوجيا، والتي هي عِبارة عن نظام شامل ومتكامل من المعتقدات والمفاهيم التي تميِّز مجتمعًا عن آخر من خلال مواقفه وآرائه. وقد تكون الأيديولوجيا هذه هي المحدِّد والموجِّه للمجتمع؛ فهي سبب وأثر لكثير من النتائج التي نراها على أرض الواقع. يقول ديكارت: "أفكارنا الفطرية هي التي تشكل أساسَ خبرتنا بالواقع". إذن؛ فنحن نعيش في عالم الأفكار ابتداء، ومن الأفكار ننطلق للواقع بكافة تفاصيله؛ لذلك فإنَّ الواقع هو تجسيد لأفكارنا، لذلك أيضاً نرى أنَّ المجتمعات مهما اتَّسعت، ومهما تطوَّرت وتداخلتْ، إلا أنَّها لا تَتَشابه فيما بينها، بل تجد أنَّ لكل منها خصوصياتها في الحياة، ويعود ذلك في الأساس إلى الأيديولوجيا التي تنطلق منها هذه المجتمعات، يقول ديفد هوكس في كتابه الأيديولوجيا: "علينا أن نتذكر دوما أن معرفتنا تنبثق من منظورنا: فهي قائمة دون فكاك في الزمان، والمكان؛ وعلينا أن نحاول مقاومة إغراء اعتبار أفكارنا كما لو كانت أبدية مطلقة".

 ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هُنا: ما هو مصدر هذه الأيديولوجيا؟ وما دورها في تشكيل ثقافة المجتمع؟.. في الحقيقة بما أنَّ الأيديولوجيا هي موجِّهة لسلوك الفرد والمجتمع أيضًا، فإن الأيديولوجيا في حقيقتها هي كل ما يدفع الفرد، والمجتمع لسلوك معين، وأيضا هي التي تمنعه عن سلوك آخر، يقول كارل ماركس: "على أساس من الأشكال المختلفة من الملكية؛ تقوم بنية عليا من الانطباعات، والأوهام، وأشكال التفكير، والتصورات الفلسفية الخاصة"؛ فإذن الأيديولوجيا هو الفكر الاجتماعي العام الذي يلتزم به الفرد ضمن دائرة تشكلها عناصر عدة؛ من دين، وأخلاق، وما ورائيات، وعادات، وتاريخ، ومفكرين، ووضع قائم لمجتمع ما، وربما الدين له الأثر الأكبر في صنع أيديولوجيا بعض المجتمعات لاسيما إذا كان المجتمع ينتمي لطائفة أو عرق ودين واحد، وذلك أيضا لأن الدين له وظيفة اجتماعية مقدسة عند هذه المجتمعات؛ إلا أنه يبقى الدين ليس هو المؤثر الوحيد، فالتاريخ له دور بارز في خلق أيديولوجيا مجتمع ما، يقول كارل ماركس في ذلك: "إنَّ التراث الخاص بكل الأجيال الميتة يجثم بثقله الكبير على عقول الأحياء".

إنَّ مُهمة الأيديولوجيا مهمة عميقة في المجتمع؛ ذلك أنَّها نوع من التفكير اللا واعي الذي يُصاحب سلوك الفرد، كما يُصاحب سلوك المجتمع ككل من خلال حِزمة من العناصر التي شكَّلتها، ولا بد لعنصر من هذه العناصر آنفة الذكر أن يكون له هيمنة أكبر من العناصر الأخرى. كما أنها -أي الأيديولوجيا- الموجِّه الأكبر لدفة التقدُّم الاجتماعي التي لو أحسن تشكيلها بالطريقة الصحيحة -كما فعلت بعض الدول- لشكلت مُجتمعا مُثقفا ذا إمكانيات غير محدودة من العقول المنفتحة. وليكون ذلك، فلابد أن يكون المجتمع ذا فكرٍ مُنفتح على الآخر، مُتقبلا وجهات نظره، مؤمنا بأنَّ الاختلاف سُنة كونية، وضرورة حتمية؛ مُوجِّها عقليته بعيدا عن النظريات المزعومة حول الأعداء الوهميين التي تشكَّلت ضمن أيديولوجيتنا العربية والإسلامية، والتي كانت الكابح الأكبر لعجلة التقدُّم الفكري والابتكاري لمجتماعتنا حتى أصبحنا ضمن دائرة مُغلقة مُتوِّجسة من كل ما يدور حولها؛ فالدين الإسلامي لا يدعو إلى الانغلاق، ولم يقل بعدم تقبل الآخر، بل حثَّ على الانفتاح على الآخر في الكثير من المواضع في القرآن الكريم، وفي السُّنة المطهرة، كما أنَّ النظرةَ المثالية لمجتماعتنا، وعلى أنَّها كاملة في مُعتقداتها، وأيديولوجياتها، وعدم حاجتها للانفتاح المعرفي والفكري للمجتمعات الأخرى، يجعل منها فريسةً لفخِّ الانعزال عن العالم، والتخلف. لذلك؛ فلا بد لنا من أيديولوجية نحقق من خلالها التقدُّم، والتطور المعرفي، والفكري. فلا سبيل لذلك إلا في إعادة النظرفي العناصر التي هي في الأساس مكوّنة لأيديولوجيا المجتمع وصيغاتها بطريقة تجعل منها صالحة لاحتواء مُختلف الأفكار، والتوجهات، والآراء بما يتناسب مع ثقافة المجتمع بمختلف أطيافة، وتوجهاته.

تعليق عبر الفيس بوك