المنهج الخليجي الموحَّد.. و"شاهد ما شفش حاجة"!

سُلطان الخروصي

 

التعليم حجر الزَّاوية الأساس في قوام أي حضارة، ولنا في حديث النبيِّ الكريم خير شاهد: "إن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضا لما يطلبه"، ولنا في التاريخ الإنساني المتعاقب مواقف وأحداث متواترة تُبرهن على رُقي الأمم وازدهارها في ظل تقديسها للعلم والمعرفة، فنجد أن فلندا التي كانت قبل عقدين من الآن  تُصنَّف بأنها أحد "الكنتونات" الهامشية في مقومات الحضارة المدنية العصرية أصبحت اليوم متربعة على عرش المدنية الرفيعة بل ويُشار إليها بالبنان كأفضل تعليم في عالمنا المعاصر.

ولنُحرك البوصلة تجاه بلاد "الساموراي" التي أحرقها لهيب الحرب العالمية الثانية (1939- 1945)، وأثقل كاهلها كبرياء بول تبيتس الطيار الأمريكي الذي أباد هذا القُطر من العالم بالقنابل النووية فقلب عاليها سافلها، وأسقط على أراضيها أكثر من 140 ألف  قتيل، لكنها اليوم تنفض عنها غبار التخلف والهزيمة من تحت ركام الموت والرصاص، وتتشبث بالتعليم المطوَّر الذي يُقدم مصالحها الوطنية قبل كل شيء، مُتناسية عثراتها وأعداءها وهفواتها؛ فنجدها اليوم نجما ساطعا في سماء العمالقة، ورقما صعبا في المنظومة العالمية. وفي القارة العجوز، نجد أنَّ الكثير من دولها كانت تقتات على أيدي الإقطاعيين وأرباب المال ومجون بعض القساوسة، فعاشت ردحا من الزمن وهي تأكل على مضض ويلات  البؤس والشقاء، لكنها قدمت مصالحها المشتركة فيما بين دولها، واستثنت القواسم المشتركة لتنجح في إنشاء تكتل تعليمي وثقافي واقتصادي عظيم فكان شعاره "متحدون في التنوُّع"، واستطاع هذا الاتحاد أنْ يخلق جيلا واعيا بما يجب أن يؤمن به تجاه قضايا وطنه (الأم) ودول الأعضاء (الاتحاد)، فلا يضيره في ذلك 24 لغة مختلفة، ولا آلاف الأعراق المنضوية تحت قبته على مستوى الدولة الواحدة أو الاتحاد ككل، ولم يفت في عضده عدد سكانه البالغ 500 مليون نسمة، فاستطاع أن يوجد تكتلا تعليميا راقيا يقدم مخرجات سخية لسوق العمل، انعكس ذلك على استقراره السياسي، والازدهار الاقتصادي الضخم ليرتفع مستوى المعيشة لكل مواطن أوروبي لأكثر من 482.33 دولار، وكان تاج هذا الاتحاد العملة الأوروبية الموحدة لأغلب دول الاعضاء تحت سقف اليورو ().

إنَّ المتتبِّع للبيت الخليجي يجد فيه الكثير من المؤشرات التي يمكن من خلالها بناء اتحاد خليجي قويم، يستطيع أن يكون رقماً صعباً في المنظومة العالمية؛ سواء في المشهد السياسي، أو التكتلات الاقتصادية، أو الموارد البشرية الماهرة، لكننا نتساءل: لماذا لم يستطع الخليجيون أن يحافظوا على أنفسهم أصلا قبل أن يبنوا تكتلا خليجيا موحدا أسوة بالاتحاد الأوربي أو دول الآسيان أو غيرها؟!

على الرَّغم من أنَّ عدد سكانهم لا يتعدى 45.9 مليون نسمة حسب إحصائيات المجلس الوطني لدول مجلس التعاون الخليجي للعام 2012، وعلى الرغم من أنَّ الناتجَ المحليَّ لدول المجلس يبلغ 1.37 ترليون دولار، ونصيب الفرد فيه يصل إلى 33.900 دولار؟ والجواب ببساطة لأننا لا نقدم مصالحنا  المشتركة فيما بيننا بقدر ما نتغنَّى بقواسمنا المشتركة (الدين، واللغة، والتاريخ)، وأن أي خلاف سياسي أو ديني بين دول أعضائه تترجم إلى سخط وهجوم سافر وقد يصل إلى القطيعة. والواقع أننا نحاول في بيتنا الخليجي الصعود إلى القمة دون الاكتراث بما تعلمناه أن (الألف ميل يبدأ بخطوة)، فنجد الكثير من المواقف لبعض دول الأعضاء تطغى على كثير من المجريات الإقليمية والعالمية، لكننا ننسى أنه ومن الضرورة بمكان تأسيس قاعدة متينة قوامها التعليم الناجح، والمنهج الناضج، لتكون لنا مخرجات واعية لا مغفلة، وذلك ما تنبهت به فلندا وسنغافورة واليابان.

حينما تمتلك دول مجلس التعاون الخليجي منهجا موحَّدا فيما يحقق مصالحها المشتركة، فمن الطبيعي أن تتفق فيما دونه بعد ذلك؛ فلا يمكن أن نخشى من بعض النعرات الطائفية التي تحصل بين الفينة والأخرى، وذلك إذا كنا نملك منهجا يجمعنا ويعلمنا أن الوطن شمعة مقدسة في قلوب الجميع، ولا يمكن أن نتهم أي دولة أخرى بأن مواقفها تجاه قضية إقليمية ربما يَزج بالخليج إلى نفق مظلم. وإذا كنا نملك منهجا يُعلمنا أن احترام الشورى واجب وعلى الجميع الالتزام بحكم المصالح المشتركة وضرورة تمكين الاستقرار في المنطقة.

الواقع المؤسف أننا في دول الخليج لا نملك تعليما موحدا، ولا منهجا مشتركا، ولا عملة اقتصادية تجمعنا، ولا تكتلات اقتصادية منسجمة، ولا مواقف سياسية مدروسة، ولا برامج أمنية متكاملة، فأنَّا لهذا الاتحاد أن يقوم؟! وهنا يربو للكثير من المراقبين ماهية هذا الاتحاد الذي تجلَى في ضوء الاتفاق الغربي-الإيراني بجهود عُمانية مسؤولة، إذن نحن بحاجة إلى أنْ نرتب أوراقنا بدقة، وأن نرسم الخطوط العريضة لمناهجنا؛ لتُخرِج لنا جيلا يعي ما يدور حوله، فلا ينقادُ لمواقف سياسية قوامها المذهب أو الزعامة أو الجاهلية، نحن بحاجة إلى منهج موحد طال أمده منذ قرار مكتب التربية العربي لدول الخليج في توحيد المناهج وتطويرها في العام 1975 حتى يقدم للمرحلة المقبلة جيلا يتوهج معرفة ومهارة وإتقانا، منهج موحد يُبعدنا عن "الأسطوانة المشروخة" التي نسمعها طوال عقود سحيقة حول قواسمنا المشتركة، فلُغتنا هي نسيم نستنشق عبقها الأخاذ، وديننا هو دمُنا الدفاق، وتاريخنا هو ملحمتنا الإنسانية التي نستمتع بها ونتعلم منها، لكننا نتعشَّم بأن تَخلق لنا مناهجنا الموحدة كوكبة من المبدعين الذين يضعوا المجلس في المربع الأول ويكتبوا عليه بالبنط العريض "المصالح المشتركة لدول مجلس التعاون الخليجي"!!، ونصُم آذاننا عن زوبعات تعصفُ في عمق فنجان! وكُل عامٍ والجميعُ بألف خيرٍ!!

sultankamis@gmail.com