سؤال في التفسير

وقفة لغوية وبلاغية مع آية قرآنية (2)

أ.د/ سعيد جاسم الزبيديّ
نواصل في الحلقة الثانية حول الآية 25 من سورة الشورى  ﴿وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ﴾ ونعرض ثالثا مدى اهتمام القدماء والمعاصرين بأساليب القرآن الكريم: (مجازه، ومعانيه، ومشاكله، وإعرابه، وتفسيره)، لمقاربة الوصول إلى فهم مراد الله تعالى في كتابه العزيز، والكشف عن أسرار إعجازه البياني على وجه الخصوص: فقد قال أبو عبيدة (ت210هـ) في كتابه: (مجاز القرآن)، حين وقف على سورة التوبة"﴿يَقْبَلُ التَّوْبَةُ عَنْ عِبَادِه﴾ أي من عبيده، كقولك: أخذته منك، وأخذته عنك"، ولم يقف على هاتين الآيتين لا الفراء (ت207هـ)، ولا الأخفش الأوسط (ت215هـ) في كتابيهما: (معاني القرآن)، وقال ابن قتيبة (ت 276هـ)في كتابه: (تأويل مشكل القرآن)، في الموضع نفسه:" عن مكان (مِن)، قال الله تعالى:"﴿يَقْبَلُ التَّوْبَةُ عَنْ عِبَادِه﴾. ( أي من عباده)، وقال الزجاج (ت311هـ) في كتابه: معاني القرآن وإعرابه: "وقوله: ﴿أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ﴾ تأويله ويقبل الصدقات "؛ أي يقول بـ(التضمين)، وقال ابن جني (ت392هـ) في كتابه: (المحتسب) في تبين وجوه شواذ القراءات والإيضاح عنها:" ومنه قول الله تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ﴾ "لما كانت التوبة سببا للعفو لاحظ معناه فقال: (عن عباده)، حتى كأنه قال: وهو الذي يقبل سبب العفو عن عباده"؛ أي يقول بـ(التضمين) أيضا.
(عَنْ) عند المفسرين:
أما المفسرون فترجحوا بين ما قاله النحاة، وما قال أهل المعاني والإعراب، على ما يأتي: فالطبري (ت310هـ) رأى أن (عن) بمعنى (من)،فقال في الآية 104 من سورة التوبة:" إن الله هو الذي يقبل توبة من تاب من عباده أو يردها"، والزمخشري (ت538هـ) قال في الآية 25 من سورة الشورى :" يقال: قبلت منه الشيء، وقبلته عنه. فمعنى قبلته منه: أخذته منه، وجعله مبدأ قبولي ومنشأه. ومعنى قبلته عنه: عزلته عنه وأبنته عنه.والتوبة: أن يرجع عن القبيح والإخلال بالواجب بالندم عليها، والعزم على أن لا يعاود"، وكرر ابن عطية (ت546هـ) ما قاله الزجاج – الذاهب إلى التضمين – وما قاله القاضي، أنّ (عن) بمعنى ( من)، ونقل ابن الجوزي (ت597هـ) قولة أبي عبيدة، التي مر ذكرها، فقال: " وقوله:﴿يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ﴾قال أبو عبيدة: أي من عبيده، تقول: أخذته منك وأخذته عنك"، وقال الفخر الرازي (ت604هـ): "(عن) في قوله ﴿عَنْ عِبَادِهِ﴾ فيها وجهان، الأول: إنه لا فرق بين قوله: ﴿عَنْ عِبَادِهِ﴾، وقوله: (من عباده)، ويقال: (أخذت هذا منك)، و(أخذت هذا عنك). وفي الوجه الثاني: قال القاضي: لعل (عن) أبلغ لأنه ينبئ عن القبول مع تسهيل سبيله إلى التوبة التي قبلت. وأقول: إنه لم يبين كيفية دلالة لفظة (عن) على هذا المعنى. والذي أقوله: إن كلمة (عن) وكلمة(من) متقاربتان".
وقال أبو حيان الأندلسي (ت745هـ): "و(عن) بمعنى (من)، وكثيرا ما يتواصل في موضع واحد بهذا وهذه، والذي يظهر من موضوع (عن) أنها للمجاوزة، وكأنهم لما جاوزت توبتهم عنهم إلى الله اتصف هو تعالى بالتوبة عليهم"، وقال البيضاوي (ت791هـ):" والقبول يعدى إلى مفعول ثان بمن وعن لتضمنه معنى الأخذ والإبانة"، وقال السيوطي(ت911هـ):" عديت بعن لتضمنها معنى العفو والصفح"، وقال الألوسي (ت1273هـ): "وتعدية القبول بعن لتضمنه معنى التجاوز والعفو، أي يقبل ذلك متجاوزا عن ذنوبهم التي تابوا عنها، وقيل (عن) بمعنى (مِن)". وقال محمد رشيد رضا (ت 1354هـ): "قبول التوبة عنهم، قيل: إنه بمعنى منهم، فالقبول هنا قد تضمن معنى التجاوز والصفح وهذا أبلغ"، وقال عبد الكريم الخطيب (معاصر):" إن التوبة التي يقبلها الله من عباده تضع عنهم ما حُمّلو به من أوزار، ولهذا ضمن الفعل (يقبل) معنى الفعل (يضع) أو يسقط ونحو هذا"، وقال محيي الدين درويش (معاصر):"وعن هنا إما بمعنى (من)أو أن القبول يتعدى إلى مفعول ثان بمن وعن لتضمنه معنى الأخذ والإبانة، فلتضمنه معنى الأخذ يتعدى بمن، يقال: قبلته منه، أي أخذته . ولتضمنه معنى الإبانة والتفريق يتعدى بعن، يقال: قبله عنه، أي أزلته عنه وأبنته عنه"، وقال محمد يوسف اطفيش (معاصر):" عن للمجاوزة المجازية، أي يصرف توبتهم بأن يقبلها ويعوّضهم الثواب عنها، ولا يتركها معهم بأن يقبلها"، وهكذا ترى أن المهتمين بالقرآن مجازاً، ومعانياً، وشكلاً، وإعراباً، وتفسيراً، لم يخرجوا عن المعاني التي ذكرها النحاة، أو أهل المعاني والإعراب.
تحليل الآية:
لو تأملنا الآية ونظرنا في تركيبها، لوجدنا: (يَقْبَلُ) هذا الفعل على زنة (يَفْعَلُ) الذي اصطلح البصريون عليه بـــــ (المضارع) يحمل دلالة زمانية عند النحاة، على الرغم من أنهم لم ينظروا إليه من خلال ملابسات القول، فهو عندهم "لما يكون ولم يقع"، ولكن هذه الدلالة واحدة من"دلالاته الزمانية المتعددة". أما دلالته الزمانية في هذه الآية فتحدد من ملابسات (التوبة)، ويكون زمانها مفتوحاً للعبد حتى قبيل وفاته، قال تعالى: ﴿وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ﴾ النساء الآية 18. وقال النبي (صلى الله عليه وسلم):" إن الله عز وجل ليقبل توبة العبد ما لم يغرغر"، وذهب بعض المفسرين في قبول التوبة قبل المرض والموت، أو قبل المعاينة للملائكة والسوق. كل ذلك يحدد بوضوح زمن (يقبل)، لا على ما ذكره النحاة من أنه لا يُلاحظ فيه زمن معين"، ولا أنّه "يشير إلى أن الحدث يقع كثيراً ؛ فهو لا يحدث في زمن معين؛ ولكنه يحدث في كل زمان، فزمن (يقبل) مدد بالآية الكريمة التي ذكرناها وبالحديث الشريف. ونذيل بقول البيضاوي:"وقبول الشيء على وجهٍ يقتضي ثواباً كالهدية".
أما لفظ (التوبة) فلها دلالتان: الأولى لغوية: فهي عند الخليل (ت نحو 170 ه): الاستحياء، وعند غيره: الرجوع عن الذنب، وأناب ورجع عن المعصية إلى الطاعة، وزاد الراغب الأصفهاني (ت 502 ه) على ذلك بقوله: "التوب: ترك الذنب على أجمل الوجوه، وهو أبلغ وجوه الاعتذار"، فكل ذلك مجموع في لفظها ومادتها، فتأمل كيف ضمّت: الاستحياء - الرجوع من الذنب - الطاعة - أبلغ وجوه الاعتذار.
والدلالة الثانية شرعية: نقل الزمخشري (ت 538 ه) في( الكشاف) خبراً فقال: "روى جابر أن أعرابيا دخل مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: اللهم إني استغفرك وأتوب إليك، وكبّر . فلما فرغ من صلاته قال له علي رضي الله عنه : يا هذا، إن سرعة اللسان في بالاستغفار توبة الكذابين، وتوبتك تحتاج إلى توبة. فقال: يا أمير المؤمنين: وما التوبة؟ قال: اسم يقع على ستة معان: على الماضي من الذنوب الندامة، ولتضييع الفرائض والإعادة، وردّ المظالم، وإذابة النفس في الطاعة كما ربيتها في المعصية، وإذاقة النفس مرارة الطاعة كما أذاقها حلاوة المعصية، والبكاء بدل كل ضحك ضحكته".
(1)    أبو عبيدة: مجاز القرآن، تحقيق فؤاد سزكين، مكتبة الخانجي، القاهرة، 1/268.
(2)    ابن قتيبة: تأويل مشكل القرآن، تحقيق السيد أحمد صقر، المكتبة العلمية، ص577.
(3)    الزجاج: معاني القرآن وإعرابه، تحقيق عبدالجليل عبده شلبي، دار الحديث، القاهرة، ط1، 1994م، 2/467.
(4)    ابن جني: المحتسب في تبيين وجوه شواذ القراءات والإيضاح عنها، تحقيق علي النجدي ناصف ومحمد علي النجار وعبدالفتاح إسماعيل شلبي، 1/364.
(5)    الطبري: جامع البيان في تفسير القرآن، دار الجيل، بيروت،1987م، مج7/15.
(6)    الزمخشري: الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل، تحقيق عادل أحمد
(7)    ابن عطية الأندلسي: المحرّر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز، تحقيق عبدالسلام عبدالشافي محمد، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 2001م، 3/79.
(8)    ابن الجوزي: زاد المسير في علم التفسير، المكتب الإسلامي، ط4، 1987م، 3/497.
(9)    الفخر الرازي: مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير، دار إحياء التراث العربي، بيروت، ط2، 1997م،6/140.
(10)    أبو حيان الأندلسي: البحر المحيط، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت،ط2، 1983م،5/96.
(11)    البيضاوي: أنوار التنزيل وأسرار التاويل، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1999م، 2/363.
(12)    السيوطي: معترك الأقران في إعجاز القرآن، تحقيق علي محمد البجاوي، دار الفكر العربي، مصر، 1970م، 2/672.
(13)    محمود الآلوسي: روح المعاني في تفسير القرآن القرآن العظيم والسبع المثاني، ضبطه وصححه علي عبدالباري عطية ، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1994م، 6/15.
(14)    محمد رشيد رضا: تفسير المنار، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 11/26.
(15)    عبدالكريم الخطيب: التفسير القرآني للقرآن، دار الفكر العربي، القاهرة، 1970م، 3/889.
(16)    محيي الدين درويش، إعراب القرآن الكريم وبيانه، دار ابن كثير/اليمامة، دمشق، بيروت، ط7، 1999م، 7/35.
(17)    محمد يوسف اطفيش: هيميان الزاد الداعي إلى دار المعاد في تفسير القرآن، ط2، عُمان، وزارة التراث القومي والثقافة، 1413هـ= 1993م.
(18)    سيبويه: الكتاب، 1/12.
(19)    مهدي المخزومي: في النحو العربي نقد وتوجيه، دار الرائد العربي، بيروت، ط2، 1986م، ص141-160. وينظر: إبراهيم السامرائي، الفعل زمانه وأبنيته، مؤسسة الرسالة، عمّان، ص23-32، وغيرهما كثير.
(20)    أي ونسنك، ومحمد فؤاد عبدالباقي: المعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبوي، مطبعة بريل، ليدن، 1962، 4/480.
(21)    مهدي المخزومي: في النحو العربي، نقد وتوجيه، ص157.
(22)    إبراهيم السامرائي: الفعل زمانه وأبنيته، ص32.
(23)    البيضاوي: أنوار التنزيل وأسرار التأويل، 2/393.
(24)    الخليل: العين، تحقيق مهدي المخزومي وإبراهيم السامرائي، مادة (ت و ب).
(25)    ابن منظور: لسان العرب، مادة (ت و ب)
(26)    الراغب الأصفهاني: المفردات في غريب القرآن، ضبطه محمد خليل عيتاني، دار المعرفة، بيروت، ط3، 2002م،ص83.
(27)    الزمخشري: الكشاف، 5/408.وينظر:الراغب الأصفهاني:المفردات في غريب القرآن، ص83، فقد ذكر من شرائط أربعة منها.

تعليق عبر الفيس بوك