الظواهر الفنية في ديوان "انشغال الغيم (3)

...
...
...

د. سعيدة خاطر
تجتاح الديوان ظواهر فنية جدير بنا ان نقف عند ابرزها :
من حيث الأساليب واللغة نجد ظاهرة تكرار بعض الاساليب لدرجة واضحة ومملة احيانا مما يحيلنا الى امرين اما ان التكرار يعني تثبيت الدلالة والتاكيد عليها كما في تكرار مفردة الجرح والجراح ، اذ ازعم انه لاتخلو قصيدة  في الديوان من هذه المفردة واحيانا يكررها الشاعر في القصيدة الواحدة في أكثر من موقع وأكثر من اشتقاق .
ومثل مفردة حزن ، ألم ، فقد ، أنين ، حنين ، ومفردة غريب غربة اغتراب ، ومن هذي المفردات قبايل ، وقوافل  ( قبايل ذكريات اشواق / واحمل جروحي قبايل / هذا الوفا ياكيف جرحه قبايل )
( وتاهت قافله من وراه  / وقوافل آهات روحي باعماق وجدي تنوح / في عيوني قوافل ليل غافي )
 وهناك تكرار أسوء هو التكرار على مستوى التراكيب مثل : اسراف الشاعر في استخدام تركيب أول وآخر :
( اول تضاريس حبك / آخر الارض قربك / واصل آخر مداه/  وساحل آخر جنوبه /  لين آخر مرحلة / أنا من جيت من آخر حدودي / وفي آخر هدب غافل بكاها / من صباح الخير لاخر وجه خير / من أول خطوتك لآخر حدود الطيب )
هذا التكرار يدل أحيانا على فقر المفردات وفقر التراكيب مع ان معجم الشاعر غني ، بل بالغ الثراء .
ظاهرة التماس بالتراث :
 نستطيع أن نقول في هذا الديوان تماس مع التراث فالمعشني له التقاطات من التراث لكنه وقف عند الالتقاط الشكلي الظاهري ، بمعنى انه لم يوظف الشخصية التراثية في  بنائية النص ، ولم يدمجها مع هموم الذات ، لترجمة الأثر النفسي الذي انعكس من خصائص الشخصية الموظفة ، انظر على سبيل المثال توظيفه لشخصية زرياب :
 خلف اغنيات الليل وآثار ركبك
                 (زرياب ) شوقي ريشته من جفوني
هنا لم يأخذ الشاعر من زيارب سوى الوصف الخارجي المتمثل في الأغنيات والريشة ، وجاء التوظيف متكلفا ، لاجمالية فيه ، ومثل هذا قوله :
حكاية من قصص ( ليلى ) عبث فيها شقي جارح
                 صحا في ركن متناثر وجرّ الريح هذيانه  
فلم يوظف الشاعر هنا الا اسم ليلى ، ولم يوضح من هي ليلى معتمدا على شهرة حكاياتها مع المجنون ، ومثلها قوله :
 اذا بتراب ( غرناطة ) بقى حافر مهر ( طارق )
هنا من الواضح أنه يحيلنا إلى فتح طارق بن زياد لكنه لم ينم الصورة ، ووقف عند حدود الإشارة الخاطفة لاسم غرناطه وطارق ، لذا لانستطيع ان نسمى هذا توظيفا للتراث ، بل هو مجرد تماس خفيف لشخصيات وأمكنة من التراث ، أقرب إلى الاستعراض لمخزون ثقافة الشاعر فقط .
جدة الصور والابتكار :
يلتقط المعشني صوره من مخيلة ذهبية يقظة ، وهو لايرضى بالصور السهلة الملقاة على قارعة الطريق ، بل لايرضى بالصور التي استهلكها غيره ، ويعرف أن الصورة الجديدة هي معيار الشعرية لدى الشاعر ، فمن هذه الناحية نقر بأن أحمد المعشني شاعر متميز وصاحب بصمة خاصة تؤهله لإرتقاء مجد الموهبة الشعرية ، ففي الديوان كثير من الصور الجديدة بل المدهشة ، وقد مر علينا كثير منها سابقا ، وفي ص 27  يقول لمن ارادته حبيبا :
باكر إذا ما أوفيت في حُسن أملك
                      موقد عتب هـ الارض فيني تشبه
ومثل صورته المدهشة التي تجسد الفقد والاغتراب الحاد ، في ص 54
هذا الطريق من اوله لين آخره
              فاضي وأنا وحدي وأشعر بالزحام                
ومن صوره المبتكرة ، ص 115
 لو عيوني سيل من شوق ونظر
             خلي قلبك أرض وتركني أسيل
لكن نتيجة لرغبة الشاعر الملحة في اقتناص صورة مدهشة وفريدة يبالغ أحيانا في تركيب عناصر متنافرة بمعنى ان اجزاء الصورة التي ركبها غير متسقة او متكلفة او هناك ما يعكر جمالياتها مثل  :  
 نورك طغى والليل في عش عصفور
                                كلما تنهد ضاع في نجم وشهاب
هنا الصورة تكاد عناصرها تتفلت من يد الشاعر لم يستطع الشاعر ان ينميها أو يكون صورة متسقة النسيج .
ومثلها قوله  في ص 117   
في عيونك كل مافيني حضر ...
          ولا نشدتك عن كريمك والبخيل
هنا العجز منبت الصلة بالدلالة السابقة في الصدر ،
 وهكذا  تجبر القافية الملتزمة مرتين في البيت ، الشاعر إلى تكلف صور ضعيفة أحيانا ، وأحيانا متنافرة العناصرغيرمتسقة فيما بينها .
لكن من الجيد ان الشاعر في طريقه للتخلص من امثال هذه التراكيب والصور خاصة كونها تشيع في القصيدة العمودية القائمة على البحث عن الصورة البيانية ذات البلاغة اللغوية المعجزة ، وتكاد هذه الصور المتكلفة تقل بل تنعدم في القصيدة المتحررة من سطوة البيت الواحد إذا يستريح الشاعر هنا ويستعيض عن تلك الصور ، بالصورة الممتدة أو الكلية في القصيدة ذات النفس السردي  كما قلت سابقا ، مثل ( خلي المطر يحكي / فيني معاه أبكي / محتاج قلبي صمت / وغياب عن كلي / الليلة ياهمي )
القوافي المتكلفة :
هذا أحد عيوب القافية في الشعرالعمودي الملتزم بقافية موحدة حيث تضيق الدلالة امام  القافية التي لاتناسب ما يشعر به الشاعر ، فيضطر أن يسد الفجوة بأي كلمة من نفس الروي  فقط لانه ملتزم بها طوال القصيدة .. وهو بهذا كمن يلقم البيت حجرا غير متسق مع المادة الخام المستعملة في البناء ككل ، الأمر الذي يجعل القارئ يشعر بخفوت جمالية الفن ، ويظهر هذا العيب لدى احمد المعشني في القصيدة العمودية النبطية التي لاتقيدها قافية آخر البيت بل تقيد بقافيتين اشبه بالبيت المصرع في الفصحي الذي يفتتح به القصائد فقط لمزيد من الربط النغمي للمستمع ، في القصيدة النبطية يضطر الشاعر إلى التقيد بقافيتين طوال القصيدة ، كأن الشاعر قد ألزم نفسه بلزوم مالا يلزم ، وهذا ارهاق لامبرر له إلا انه موروث ، وهو قد يأتي في كثير من الأحيان على حساب الفن الشعري ، وعند استخدام تلك  القوافي نشعر بعدم مناسبتها للمعني واضطرار الشاعر لوضع هذه الكلمة لأنه لابدائل لديه ولا خيارات أمامه :  ففي ص 58 نجد هذا البيت :
وأعتقد لا ابالغ لو ركبت السميح
                غلطة الصبح إنه مستعيرك جناح
ولا أجد معنى للسميح إلا كونها متسقة مع قافية مثل نصيح فصيح مريح .... الخ
وقوله في ص96  
ظلل شجوني بفي حسك وأهدابك
               ماهو عشاني مجرد أستفز صيفي
 ايضا صيفي هنا مجرد تناغم مع ريفي ، طيفي ، سيفي ... الخ
وهي قوافي اقل مايقال فيها انها متكلفة قلقة ليست في مكانها المناسب .
الخلاصة :
قدم لنا المعشني في ديوانه تجربته الذاتية مجسدا معاناة  الإنسان المعاصر وأزماته المتمثلة في الفقد والاغتراب والقلق والملل الوجودي ، وقدم لنا شعرا صافيا وفنا متميزا وإبداعا خالدا لما فيه من نبض إنساني مشترك ، ومن تجديد وخلق وابتكار يليق بصاحبه أن يواصل هذا العطاء الإنساني المتميز.

تعليق عبر الفيس بوك