"انشغال الغيم" ومستويات الفقد (1)

...
...
...

د. سعيدة خاطر
إن النظر بإمعان إلى عتبات ديوان “انشغال الغيم” للشاعر أحمد بن محمد المعشني سيوصلنا  إلى احتمالات ظنية تسلط إَضاءة خافته على التجربة الشعرية للشاعر، فالعنوان يتكون من مفردتين مسند ومسند إليه، فقد أسند الشاعر مفردة الغيم إلى انشغال، وانشغال صيغة مشتقة من انشغل/ انفعل، وصيغة "انفعل" .. أكثر الصيغ قربا إلى العامية في التذوق اللغوي، إلا أنها  فصيحة، وزاد الشاعر على  مبنى هذه الصيغة أنفعل فأصبحت (انفعال)  أي انشغال، ومن المعروف أن أي زيادة في المبنى تدل على زيادة في المعنى، ففعل أنشغل يدل على ماضوية الحدث، انشغل لفترة زمنية وانتهى، لكن انشغال مصدر يدل على استمرارية حدث الانشغال، ومعنى انشغل في المعجم يأتي على تركيبين متضادين في الدلالة، الأول: انشغل به، والثاني انشغل عن، فالفعل أنشغل ينشغل انشغالا، والمفعول منشغل به ويقال: انشغل بالُه أي: قلِق واعتراه همّ وفكر.فانشغل بالشيء أي أصبح هذا الشيء همه واهتمامه، وانشغل عن الشيء: انصرف عنه وأهمله وتركه لاهتمامه بغيره....  وأحسب أن المعشني أراد الانشغال الأول إذ لا معني  (للانشغال عن) في هذا العنوان  بل أن الانشغال به هو الذي يهيئنا له الشاعر من خلال إشارة العنوان الموحية، ومن خلال الإهداء، ومن خلال محتوى  القصائد كما سنرى.
المفردة الثانية الغيم ويطالعنا الغيم في الديوان على مستويين المستوى الخارجي في الطبيعة  وقد تمثل في كثير من قصائد الديوان مثل قصيدة (انشغال الغيم، مدائن النور، فوضى نسايم ، عرس المطر، نرجسية، ليلة مطر، نشاز، خلي المطر يحكي ، وجه السحاب . بوح الثرى).
ولهذا المستوى دلالات الفرح بالغيث الذي يحيي الأرض، حيث أن الغيم يقوم بتغيير إيجابي ظاهري في الطبيعة خاصة في منطقة يرتكز جمالها واقتصادها على حضور الغيم كظفار الأقليم الذي ينتمي إليه الشاعر، لكن من الواضح أن الفعل الخارجي للغيم يعقبه دائما المطر الذي يغير الطبيعة ويجملها متجاوبا في فعله مع نفسية الشاعر محدثا بها التغيير أيضا:  (للمطر حس آخر غير سقي التراب...هكذا علمتني وحفظتني ظفار). وسنلاحظ أن كل قصائد هذا المستوي مشتركة بين الحالتين الخارجية للطبيعة والداخلية للشاعر:
(هـ المسا حس المطر فرحة يتيم... للثرى يهمس برقة وانسجام)، (وانشغال الغيم في عبث النسيم... تستغله الشمس في رد السلام). إن تكرار مفردة (حس) وربطها بالمطر في اكثر من قصيدة، وفي قصيدة (عرس المطر) تؤكد ذات الظاهرة المزج بين فعل المطر الخارجي وفعله الداخلي بالشاعر: (المطر غطى تجاعيد الكهوف.. ياترى من خوله؟ والجبال تمد للغيم الكفوف.. كنها متسولة).
هذا فعل خارجي ثم ينتقل الشاعر (آه ياكثر الحنين ... اللي ملا وجه التراب.. والمطر جرح وأنين ... صاح في ظلم الغياب  ) ص 43
والمستوى الثاني للغيم هو دلالة داخلية نفسية  بحته، تدل على أن الشاعر يمر نفسيا بحالة من الغيم الذي لايتبدد بل يخيم على سماوات الفرح داخله فيسبب التعتيم والهم  والكدر والألم والجو المشحون بالحزن، وهذا نجده في غلبة مفردات مثل: (الفقد، اليتم، الاغتراب،  الجرح، الظلم،  الهم، ويخلق الشاعر من الغيم في هذا المستوى معادلا موضوعيا لحالته، فالغيم هنا  ليس مطرا ، بل هو الهم المتراكم على الشاعر، والشاعر هوالمنشغل بالشيء الذي فقده، الأمر الذي يسبب اِضْطِرابَ البالِ قَلَقاً وَهَمّاً وَحزنا.
ومن قصيدة نرجسية: (خلف هذا الغيم فمي... وخمس أطفال ومدينه... وكل تفكيري وهمي... كيف توصلني يدينه) فرغم كل هموم الشاعر إلا أن تفكيره منحصر في (فقد) من يحب الذي أشار له بجملة المجاز (كيف توصلني يدينه). ومن قصيدة ليلة مطر  (ليلة مطر/ برق ورعد/ في خافقي/ ليلة مطر/ قبايل ذكريات أشواق/ غزتني والجروح عتاق/ وانت الحلم والمنفى/ وبسمة جرحي الدامي/ يداهمني حزن ظالم/ يحاصر كل شيء فيني)  ص 51
إن المطر هنا  ليس المطر المتعارف عليه بل هوحالة نفسية من الحزن الذي يحاصر كل شيء في الشاعر، وقد أجاد بوصفه حزن ظالم . (والمطر جرح وأنين/ صاح في ظلم التراب)، ونلاحظ ان الشاعر في كلا المستويين يعاني من الفقد ففي المستوى الاول يخشى فقد الغيم الماطر الذي يبهج الأرض والنفس الانسانية، جالبا الفرح، لأن هذا الغيم المرتبط بالفرح مهدد بالفقد بعد زوال موسمه القصير (الخريف)  ومن ثم زوال الفرح والجمال،وفي المستوى الثاني يخشى فقد شخص (ما)، شيئ ما، وقد لخص الشاعر مأساة فقده في التجربة بقوله:(شاعر كل عمره بين جرح وخصام ) ص 31
والخصام هو حالة الفقد التي اوضحت جملة  (كل عمره) انه خصام ممتد ممزوج بالجراح؛ فإن أضفنا (انشغال) إلى (الغيم) على المستويين الخارجي والداخلي سنجد جملة ذات دلالة واضحة، بل وجدنا تركيب شعري يلقي بضوئه على محتوى الديوان  لأن الغيم في حالة انشغال بالتغيير الخارجي الحاصل في الطبيعة، والانشغال بالتغيير الداخلي الحاصل في نفسية الشاعر، وهنا نجد أن اختيار العنوان جاء مدروسا بوعي. صحيح أنه عنوان قصيدة داخل الديوان لكن الشاعر تخيره لينسحب على التجربة الشعرية ككل انسحابا موفقا.
والعتبة النصية الثانية التي تستوقفنا قبل الدخول النصي  للمحتوى هي الإهداء الذي جاء مختصرا في جملة ناقصة (إليهم أينما كانوا...)  ورغم غموض  الدلالة المتجسدة في حيرة الضمائر وحيرة التساؤل: من هم هؤلاء؟ وما الذي يهدى إليهم؟  إلا أنه عنوان موحي باشعاعات دالة وكافية، وهو إهداء ينصب مباشرة على مفردة الفقد، فالشاعر يفتقد أحبة، وهم أينما كانوا فالشعر مهدى إليهم، وسنرى أن هذا الفقد هو مرتكز التجربة الأساسي وهو المسبب لتداعيات الحزن والألم  والجرح والغربة، والسبب الرئيسي لانشغال الغيم (الشاعر) واحساسه بالملل الوجودي الذي لخصه في قصيدة عنوانها ملل، وقد أحسن صنعا حين وضعها في ختام الديوان كأنه يلخص رؤيته الشعرية، قائلا:  ختاما الحياة ملل، وهذا الملل هو سبب الغيم الجاثم على النفس: (ملل أكتب بلا خاطر... وأخون الشعر والشاعر... مديح وغزل وسوالف... تضيق بروح قايلها ) ص 156

تعليق عبر الفيس بوك