صناعة التطرُّف!

سُلطان الخروصي

رُبما شاء القدر أن تُدوِّن المنطقة العربية مرحلةً مؤلمةً في تاريخها على غرار ما عاشته أوروبا في القرون الوسطى، فبعدَ نفض غبار الثورات العربية -على قول- والفوضى العربية -على قولٍ آخر- ضد العديد من المظالم والاستحقاقات، تشهد الساحة صورة ضبابية لِحراكٍ شعبي كان باطنه الرحمة، فما إن انجلت حتى بان ظاهره العذاب، فهي ليست كثورات عُرابي، أو ثورة الأحرار، أو أبناء المُختار، أو سعد زغلول...وغيرهم الذين ناضلوا لتحرير الوطن من الطامعين، لتظهر لنا فُقاعات الربيع العربي التي قلبت واقعنا المُتأزِّم في الأساس من سيئٍ إلى أسوأ، وكأن لسان الحال يقول "تمخَّض الجملُ فولد لنا فأراً".

إنَّ سيرورة الزمن بعد حينٍ لأي استبداد لا تنتج عنه إلا عواقب وخيبة ذات نكال مؤلم على الشعوب والمُستبِّد على حدٍّ سواء؛ لتخلق جبهة مناضلة شريفة تُنذر أجسادها وأرواحها قُرباناً زكيَّا للذوَّد عن البلاد والعباد من دنس المُغتصبين. فحين دخل الطليان إلى ليبيا واستبدُّوا واستباحوا أهلها وأرضها لم يشفع لهم الزمن لأكثر من قرن بأن يكسروا شوكة المقاومين الأحرار، فلقَّنوا المُحتل درساً خالداً في ضروب النزال والنضال بلا نهاية ولا هوادة حتى استطاع أولئك الفتية تحرير بلادهم؛ لأنهم فتية آمنوا بحق العيش الرغيد وضرورة أن تكون مبادئ الإنسانية القويمة وأخلاقيات الدين السمحة هي المرجعية الأصيلة للتعاطي مع مُجريات الأحداث في جبهات القتال وفي غرف المفاوضات السياسية والدبلوماسية، فكانوا على ضفاف فكر نقيٍّ، ومرجعيات قويمة سديدة خلّدت ذكرى عُمر المختار وأصحابه.

قد لا يختلف اثنان على أنَّ اليأس الذي يشعر به المواطن العربي أمام حالة الفراغ السياسي بالمنطقة مردُّها ازدواجية فاضحة في المفاهيم والمبادئ والمرجعيات السياسية والفكرية والدينية والانهيارات الاقتصادية على حدٍّ سواء؛ مما أوجد شريحة من الشباب الذين لم تتلقَّفهم المؤسسات المعتدلة فكريًّا، لتُنير عقولهم وتُوسِّع مداركهم حول قراءة الواقع بمسؤولية وتبصُّر. وهنا كان لِزاماً على المؤسسات الرسمية أن تُجنِّد مَن هُم في مقام صِناعة القرار بجدارة لبناء منظومة فكرية سليمة غير ملوثة بالفتاوى المدفوعة مسبقا أو بخزعبلات فكرية "هتلريّة" تشعرهم بالعُزلة المجتمعية والتهميش وأنهم رقم في غير محله بأوطانهم؛ مما دفعهم إلى الانخراط في مستنقعات ضحلة قوامها تُجَّار دِين وسماسرة حروب ربحية تتّسم بالشكل الصُوَرِي لخِلافة الأمة والوريث الحقيقي لرسالة النبي الكريم.

لو تتبَّعنا الخيوط الرفيعة لبروز تنظيم "داعش" -على سبيل المثال لا الحصر-  وبعض الجماعات المسلحة الأخرى، سنجد أن جُلَّها يرجع للمربع الأول في التأسيس الفكري والسلوكي لهؤلاء الفتية من خلال العُقم الكبير الذي يجتاح مناهجنا التعليمية في أغلب أقطار الوطن العربي؛ فكيف يمكن بناء جيل طوال عقد من الزمان يعتمد على الكم المعرفي "الهزيل" دون الاكتراث إلى نوعية ذلك البناء؟! فحين لا تستطيع مناهجنا أن تغرس في قلوب الطلبة وعقولهم ماهية الوطن وقُدسيته ووجوب الدفاع عنه ضد أي مُغتصبٍ أو حاسدٍ أو متربِّصٍ فأنَّى لهذا التعليم أن يُحصِّن القلوب والعقول من سفك دماء أبناء الوطن الواحد؟، وحينما لا تستطيع مناهجنا التعليمية أن تغرس في سجايا المواطن سماحة الدين وجماله الذي اجتاح العالم ليُدخل البشرية في دين الله أفواجاً وشعاره "جئنا لنُخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة ربِّ العباد"، فأنَّى لهذه المناهج أن تخلق جيلاً واعياً متوقِّداً بالحِنكة والحكمة والمعرفة لإدراك عالمه المحيط؟ ثم كيف يمكن لهذه المناهج أن تواجه تيَّاراتٍ فكريةٍ وأيديولوجيةٍ شرسة تستقطب هؤلاء الشبيبة نحو مسالخ الموت بمُسميات هُلامية تتلوَّن "بماركة" الشهادة والجهاد فيُزجوَّن بهم كالقطيع إلى مرادم الموت؟!

"داعش".. هي حديث الساعة الآن والشغل الشاغل للعالم، ومن خلاله انتعشت الرأسمالية بالإقبال المهول على شراء الأسلحة بشيكات موقعة على بياض، وهناك تحالفات دولية لا تزال في الأفران تُطبخ على نارٍ هادئة يُعوَّلُ عليها القضاء على القواعد العسكرية لهذا التنظيم، وتجفيف منابعه المالية المهولة دون أن ننسى أن فاتورة كل ذلك هي من جيوب العرب وليس من جيوب "الأصدقاء"! والمتتبع لجذور هذا التنظيم يجده قد بدأ بمخاضٍ عسير منذ العام 2003، حينما غُزيَ العراق ليصبح اليوم وحشاً كاسراً يجتاح الوطن العربي بلا مقاومة من جيوش العرب التي التهمت مليارات من الميزانيات الوطنية! ليبقى السؤال الجوهري: حينما تنتهي أسراب طيران التحالفات العربية وأصدقائهم بإلقاء أطنان من البارود الحارق، وتُغطي سماء دمشق وبغداد وصنعاء بسُحبٍ رُكامية قاتمة، فهل العرب مستعدون لتحمُّل فاتورة ردةَّ فعل هذه الجماعات على الصعيد الأمني والاقتصادي والاجتماعي والتنموي، في ظل تشظِّي المواقف البينيّة العربية؟!

وللإجابة عن هذا، لابد لنا مُراجعة إحداثيات المنهج الذي تسير عليه المؤسسات في الوطن العربي والتي يراها هؤلاء الشباب بأنها مُستبدِّة فكريًّا وسياسيًّا واجتماعيًّا واقتصاديًّا وثقافيًّا، لابد أن يتبنى صُنَّاع القرار السياسي ثورات إعلامية وعلمية وتربوية، لابد أن تسعى لتحقيق العدالة الاجتماعية بمدلولها الحقيقي لا الصُوَرِي، لابد أن تؤسس منظومة شراكة سياسية فاعلة بين مؤسسات الدولة والمجتمع المدني، لابد من تحرير عقول الناس من سذاجة من يتاجرون بفتاوى ما يشتهيه المتشدَّقون فيُنزلون من البشر حجرا، لابد من احتضان هؤلاء الذين صُمَّت أذانهم بأبواق بعض رجالات النجاسة الذين يفاضلون مصالحهم الحزبية عن الوطن، لابد أن تُولي مؤسساتنا الرائدة ثقتها الحقيقية بأن هؤلاء الشباب هم حاضرها ومستقبلها، وأن تتنازل عن كبريائها الذي يعتبرهم كالقطعان؛ فالشباب حينما وجدوا أن مؤسسات وطنهم تعيش تصحُّراً كبيراً في تحقيق أدنى حقوقه كإنسان؛ التفتوا لمثل هذه العصابات فوجدوها تُغدِق عليهم المال والزوجة والمسكن والمأكل، وقلَّدتهم مناصب قيادية وتوعوية ودعوية غلغلت في نفوسهم الولاء لها ليكونوا بعد حين حطب نيران الموت.

نحن بحاجة لمراجعة مُجريات الأحداث لنقرأ الواقع بحقيقته وجُزئياته الدقيقة؛ وذلك يستدعي من الحكومات العربية أن تُقدِّم تنازلات مشروعة لأبنائها في سبيل الحفاظ على النسيج الاجتماعي واللحمة الوطنية، فلسنا بحاجة إلى مجازر وحشية يقودها عُبَّاد المال والدَّم وتُجَّار الدِّين، بينما يكون الإنسان العربي -الذي خرج بائساً من وطنه- فأرَ تجاربهم. كما يحدونا الأمل أن نُعلِن للعالم الراقي عن براءة اختراع عربية يُشار لها بالبنان، لكن لا أن نوصف بالخزيِّ والعار بمثل هذه التنظيمات التي ابتكرها العرب بأنفسهم وقدَّموا لها المال الحرام والفكر المشوش والحاضنات النجسة، هذا التنظيم وغيره يستصرخ في جُنده جهارا نهارا "لا تُصالح" ليُعلن حرب إبادة للبشرية، ومن السليم أن تُصحَّح المفاهيم والمعايير لتنوير هذه الثُلة بدلا من حرقها وخلق مئات الدواعش ومن على شاكلتهم وتعود حليمة لعادتها القديمة!

[email protected]